20-مايو-2022
جريزيلدا الطيب

جريزيلدا الطيب والراحل البروفيسور عبدالله الطيب

رحلت  جريزيلدا؛  الموت  يعيد رسم  تفاصيل لقاء أخر  بينها وبين الرجل الذي  نعمت برفقته لأكثر من نصف  قرن من الزمان. في صباح الجمعة  الخرطوم تنبئك  بخبرها، انتقلت الى الرفيق الأعلى جريزيلدا الطيب، أرملة الراحل عبدالله الطيب، في انتظار تنفيذ وصيتها بأن  تدفن بالقرب منه، بعد أن كانت  قد أكملت تجهيزات قبرها مسبقًا في مقابر حلة حمد بالخرطوم بحري.

نعى  مجلس السيادة الانتقالي  الفقيدة  ونعتها أيضًا السفارة البريطانية في الخرطوم

أربعينات  القرن الماضي، العالم يخرج لتوه من الحرب، لندن عاصمة البلاد التي تموت من البرد حيتانها، التي شهدت  ميلاد  قصة الحب. وقتها لم تكن  طالبة الفنون الجميلة  تعلم بأن  الشمس ستشرق عليها في أرض الاستواء، لم تكن على دراية بأنها ستقضي عمرها بين الخرطوم والدامر والتميراب،  وستجوب مدن السودان المختلفة ممثلةً للرجل الذي سيصبح زوجها، وبين أناس تحتل العلاقات الاجتماعية فيما بينهم الصدارة.

تيليغرام

وقتها كان البروفيسور المتخصص  في اللغة العربية عبدالله الطيب،  الراحل في العام 2003،  في بعثة تعليمية مع مجموعة من الأساتذة. تحكي جريزيلدا  تفاصيل اللقاء الأول بينهما حيث كان الرجل يصب جام غضبه على الاستعمار  وسياساته، في الوقت الذي  كان الطيب  يهاجم الإنجليز؛ قالت أنها كانت تتأمل في جمال أسنانه وفي طريقة كلامه، وانتهي بهم الأمر للزواج.

تقول عنه جريزيلدا، في إحدى الأيام أوصى البعض عبدالله الطيب بها أثناء تلقي المحاضرات،  لكنه ألقى المحاضرة وغادر مسرعًا  لتلحق به وتمسك بيده، اليد التي لم تتركها طوال عمرها، وبعدها اكتمل الزواج المدني بين ابنة أستاذ اللغة الفرنسية، حيث كانت جريزيلدا تنحدر من أسرة تعليمية، ومن فتي (التميراب)  المميز.

كانت الحسناء الإنجليزية والفنانة التشكيلية تعلم مسبقًا أن رحلتها  إلى السودان لن تكون مثل رحلات الأجنبيات المتزوجات بسودانيين تبدأ لتنتهي،  فهي مشروع حياتها، مما دفعها لتعلم اللغة العامية السودانية والانخراط في تفاصيل المجتمع بشكل عام.

في العام 2003 رحل الطيب عن دنيا الناس إلا أن جريزيلدا ظلت هي الزوجة الوفية، حيث عكفت على حفظ وصيانة مقتنياته الثمينة من الكتب والمراجع التي أفنى عمره قارئًا ومؤلفًا وشارحًا لمضامينها، فوقفت جريزيلدا بكل صلابة في مواجهة لصوص الكتب، على حد قولها، واستطاعت خوض معارك قانونية ضارية في سبيل استعادة "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" أحد أبرز الكنوز العلمية التي ألفها شريك حياتها الراحل.

جريزيلدا الطيب
جريزيلدا الطيب تحتفل بعيد مولدها الـ (95) بجامعة الخرطوم

جريزيلدا الحاصلة على وسام المملكة تقديرًا لمساهمتها في تقوية العلاقات السودانية  البريطانية وصلت إلى السودان في العام 1950 وانخرطت في مجتمع الفنون التشكيلية،   واهتمت بعملية التوثيق  للملابس السودانية وهي التي شهدت التغيرات الاجتماعية في البلاد وعلقت على غياب بعضها بفعل الزمن.

نعى  مجلس السيادة الانتقالي  الفقيدة  ونعتها أيضًا السفارة البريطانية في الخرطوم. قبل عامين  احتفلت السيدة  بعيد ميلادها الخامس والتسعين واختارت أن يكون الاحتفال داخل مباني جامعة الخرطوم، وكأنها تستعيد شريط  ذكرياتها. الذكريات التي تحوي أيضًا  فترة العمل في بخت الرضا، ومعاناة السفر بين الخرطوم والدويم عبر "اللواري"،  والوحل  وعدم الكهرباء حيث كان الراحل يكتب مؤلفاته على ضوء الرتينة.

اليوم  تنتهي  القصة  الخاصة بالتشكيلية ومعها الرحلة التي بدأت بابتسامة  في لندن وتختم في أرض السودان، حيث سيكون قبر الإنجليزية  على مقربة من  البروفيسور السوداني، وربما تبتسم وهي التي اختارت رجل قادم من الأرض الحارة ليكون وطنًا لها، واختارت وطنه ليحتضن رفاتها.