22-سبتمبر-2020

علم فلسطين (بصائر)

ربما لا يتفق معنا الآخرون حول عبارات مثل، "آليات الهيمنة الإمبريالية"، واعتمادها داخل منهج تحليل ومقاربة الظواهر الموضوعية والمادية التي تشتبك بشكل وجودي مع حياتنا العامة، ويتم التعبير عنها وعن مواقفها المختلفة والمتناقضة في الخطاب أو الممارسة داخل المشهد السياسي الراهن في عالمنا العربي.

علينا أن نفهم القضية الفلسطينية في سياق أوسع كنضال شعب من أجل أرضه ضد الهيمنة الإمبريالية

وربما لأن هذه العبارات الشارحة بالنسبة لنا تنتمي، في تقديرهم، إلى نسق فكري ومذهب في التحليل السياسي غير مُتبنى من قبلهم، وغير مقتنعين بنجاعته في تقديم إضافة معرفية ذات جدوى في تقديم إجابات حول جوهر مسار التطبيع الجاري بين الدول العربية وإسرائيل، بما في ذلك دولتنا السودان المنخرطة في ثورة شعبية ما زالت تداعيها مستمرة، ولم يتبلور مسارها الذي يعيش، هو نفسه، داخل تناقضه الخاص، بين طموح المطالب الشعبية الثورية للغاية، وبين غاية بعض النُخب والعسكر في فرض نموذج نهائي يتماهى مع القيم الليبرالية، يراد منه (تشطيب) مباني المشهد العام على سقف محدود الطموحات، بالاستفادة، بالطبع، من حالة عداء سافر للإسلاميين أو (الإخوان المسلمين)، بحسب البروباغاندا السياسية الجديدة الماكرة التي يتم الترويج لها في عالمنا العربي والإسلامي، وتحاول أن تموضع التناقض بشكل زائف وكأنه بين قيم الدولة الليبرالية الحديثة والنُخب الداعمة لقيم الحداثة والتغيير، من جهة، وبين استبداد ومؤامرات الإسلاميين (الإخوان المسلمين)، من جهة أخرى. وسيبدو بشكل ساخر للغاية أن القيم التحررية للشعوب والدول تكمن في الاستجابة المطلقة لشروط الحداثة الليبرالية في شكلها الدولاني (الحقوقوي)، لا في التفسير الموضوعي لجوهر العلاقة والتناقض بين الطبقات الشعبية والنخب الحاكمة والمهيمنة، كيفما كانت أدوات السيطرة والحكم عبر تبني آيدلوجيا الإسلام السياسي، كما عانينا منه في السودان مع الإنقاذ، أو كما عاشته تونس قبل الثورة مع زين العابدين بن علي، حيث لا يتغير شكل السلطة وجوهرها بتغير آيدلوجيا خطاب السلطة وطبيعة حكمها، كانت علمانية أو إسلامية أو دولة دينية يهودية.

اقرأ/ي أيضًا: خفة التطبيع في السودان

واحدة من الإشكالات التي عانت منها قضية الشعب الفلسطيني، أنها لطالما استخدمت ضمن أدوات تحقيق المشروعية لأنظمة باطشة في عالمنا العربي، وكانت مرتبطة بأفق المشروع القومي أو الإسلامي، ووظفت بوصفها الفضاء السياسي التحرري، عربي أو إسلامي، ويعبر عن هوية تلك الأنظمة، من حافظ الأسد في سوريا إلى صدام حسين والبشير في العراق والسودان. وكانت عناصر المقاومة الرمزية والنفسية ذات الطابع الهوياتي أو الديني، تشكل واحدة من عوامل إسناد بقاء هذه الأنظمة واستمراريتها في الحكم، ما شكل قناعة كبيرة في نفوس السودانيين أن القضية الفلسطينية ارتبطت أيضًا بأكثر النظم بطشًا، وأضحت أيقونة الاستبداد المفضلة. لذا، نزح الوجدان النفسي لتلك الشعوب التي عاشت تحت الأنظمة الدكتاتورية نزوحًا إجباريًا من حالة التعاطف مع القضية الفلسطينية والتضامن مع شعبها، إلى الضفة الأخرى، إلى حالة النكران، ولكأنما تمت تهيئة الوجدان الشعبي في العالم العربي عمدًا لهذا الأمر، وأن يقف في جهة هشة ومنفصمة عاطفيًا بين ذاكرة القمع باسم القضية الفلسطينية، وبين الموقف الإنساني الذي يمليه الضمير خارج أي تقديرات أخرى.

في حالة السودان سُرق الموقف الطبيعي والإنساني المتضامن مع القضية الفلسطينية لمصلحة خطاب نظام استبدادي

في السودان، وفي بدايات عهد الإنقاذ، تحكي الطرفة عن الموظف الذي وقف آخر الشهر أمام الصراف ليقبض مرتبه وفوجئ بأن نصف مرتبه ذهب في استقطاعات من بينها دعم جهاد مسلمي البوسنة في أيام الحرب الأهلية في يوغسلافيا؛ ولأن الاٍنقاذ الإسلاموية وقتها كانت في عز هوس خطابها الإسلامي الذي لم يكتف بنصرة مسلمي السودان فقط، بل ذهب إلى نصرة مسلمي العالم، ومن بيهم مسلمي البوسنة، ليقتطع من مرتبات الموظفين والعمال السودانيين (تبرعًا إجباريًا لنجدتهم) تقول الطرفة أن الموظف بعد أن احتسب المتبقي القليل من مرتبه بسبب الاستقطاعات (الجهاد) (النفرة)، ودعم مسلمي البوسنة قام بعدِّ مرتبه، وناول المحاسب ورقة بعشرة جنيهات، وحين استفسر محاسب الخزنة بدهشة عن سلوك الموظف! قال له: "هذا تبرع مني أيضًا للصرب حتى يقضوا على المتبقي من مسلمي البوسنة)!، ولعله أراد بذلك أن يرتاح من تلك الاستقطاعات التي تمس حياته ومعيشته باسم الواجب الديني في المناصرة وواجب الجهاد.

لذلك من المهم جدًا الإشارة إلى أن موقف التضامن قد يتحول لموقف عدائي إن سُرق الموقف الطبيعي والإنساني لمصلحة خطاب ديني أو قومي أو حتى علماني يحمل كل أشكال الاستبداد والعنف.

واقع الأمر، سواء طبعت الحكومات مع إسرائيل أو لم تطبع معها، فإن هذا لا يلقي بقضية الشعب الفلسطيني التاريخية خارج مسار التاريخ والصراع العالمي بين الشعوب والإمبريالية، ولا يمكن أن تقوم الإجراءات السياسية والاتفاقات المُبرمة، هنا وهناك، بدور تصحيح الاعتلال التاريخي للعلاقة بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والشعب والفلسطيني؛ بحيث يمكننا أن ننظر للمشهد ولو عبر مرآة سحرية أمن الواقع هناك رومانسي يسوده السلام والتعايش؛ لأن العدالة، كقيمة، تظل غائبة حقيقة، بتغييب أصحاب الحق، وهم الفلسطينيون: شعب الأرض الأصلي وملاكها. وهذا لا يعني إطلاقًا عدم بحث الفلسطينيين عن فرص السلام عبر التسويات العادلة، لكن بتسمية الأشياء بمسمياتها، وهي أننا أمام (حالة استعمار) يراد لها البحث عن تسمية أخرى مضللة، في لحظة السوق والمنافع السياسية الدولية والإقليمية، وهي تعبر عن منافع وطموحات الطبقات الحاكمة، ليس في إغلاق الملف الفلسطيني باعتباره حالة شعب وأرض، وإنما طي هذا الملف الذي شكل، باستمرار، أكبر مستودع لتغذية النزعات الراديكالية والثورية في العالم، وبالتالي، فإن القضاء على الثورة الفلسطينية -مع استحالة ذلك- هو بمثابة تطبيع لنمط الاستبداد الإمبريالي في العالم؛ بحيث يصبح ما حدث في فلسطين عظة ورسالة لكل شعوب العالم، وهو ربما كان بمثابة التمهيد الضروري للموجة الثانية من الاستعمار المادي الفعلي الجديد؛ حيث تعولم أيضًا لغة التطبيع وتصبح بديلًا لخطاب التحرر.

لكن يبقى السؤال: هل يحتاج الشعب الفلسطيني لتلك النخب المهزوزة المهزومة في يقينها، ومثقفي أنشطة السُبات العقلي؟

هل يحتاج الشعب الفلسطيني لحكوماتنا التي ساهمت في طمس معالم قضيته بخطابها القومي والديني؟

حالة تطبيع الأنظمة الاستبدادية مع إسرائيل هي فرصة لقضية الشعب الفلسطيني للانفكاك من الاحتكار القومي والديني

من المستحيل أن نقول إننا أمام الفصل الأخير من كتاب العالم الحُر؛ فحركة التاريخ وسيرورته تقول إنه من الأفضل لقضية الشعب الفلسطيني العادلة أن يفك احتكارها بواسطة الأنظمة الاستبدادية أيًا كانت صبغتها، لتندمج في مسار حركة التحرر العالمي، بدلًا عن أن تصبح بمثابة لغة إقليم وعرب ومسلمين ونزاع هوياتي وديني، أي بمعنى أن تنفك من احتكار ما هو قوموي وإسلاموي وتعود من جديد لمنصة النضال العالمي ضد الهيمنة الإمبريالية كيفما قدمت تصوراتها وتطبيعها.

اقرأ/ي أيضًا

القضية الفلسطينية كما يجب أن نفهمها

زيارة بومبيو.. التطبيع وقضايا أخرى