الترا صوت – فريق التحرير
رغم تسارع إيقاع التطورات على الساحة السودانية، إلا أنه لم تلح في الأفق بوادر تسوية سياسية، حيث يكتنف الغموض المشهد تمامًا، كما أن الشارع الثائر لا زال مستعصمًا بدعوات إسقاط النظام، بينما تتعامل السلطات مع الحراك الاحتجاجي بالقمع المتواصل، والاعتقالات دون أن تعبأ بسقوط الضحايا ودعوات المجتمع الدولي للتوقف عن العنف.
بدأت التظاهرات في المدن السودانية تتخذ وضعًا أكثر تنظيمًا على الأرض مستهدفة قطاعات مهنية وشرائح اجتماعية جديدة
بدأت التظاهرات تتخذ وضعًا أكثر تنظيمًا على الأرض مستهدفة قطاعات مهنية جديدة، حيث أصبح مألوفًا وراتبًا جدول المواكب المسيرة نحو القصر الجمهوري، أيام الأحد والثلاثاء والخميس، بجانب التظاهرات الليلية التي تُنظم في الأحياء وكافة مدن السودان، والتي دخلت أسبوعها الخامس كأطول موجة احتجاجات ضد سلطة البشير.
محاولة احتواء الشباب الثائر
أضرم سقوط المزيد من الضحايا المزيد من نيران الغضب في نفوس السودانيين، وهذا تقريبًا ما أدركته السلطات حيث توقفت عن استخدام الرصاص الحي، وذهبت إلى اتهام جهات وصفتها بالمندسة بأنها تقتل المتظاهرين، وقال الرئيس البشير الذي كان يخاطب حشدًا صوفيًا بولاية النيل الأبيض وسط السودان، إن "الطبيب أبوبكر الذي قتل في بري الخميس الماضي، قتل من داخل المظاهرات بسلاح غير موجود لدى قوات الشرطة ولا الجيش ولا السودان"، على حد زعمه. وخاطب الشباب في محاولة لاحتواء مشاعرهم، بالقول إن "البلد دي حقتكم والمستقبل مستقبلكم واستقرار البلد دي لاستقراركم". كما أنه تساءل بعد أن قدم صورة سوداوية للأوضاع في حال سقوط النظام: "الآن البلد دي لو حصل فيها ما حصل في الدول الأخرى حا نمشي وين؟ حا نبقى لاجئين في الدول الأخرى".
اقرأ/ي أيضًا: سودان جعفر خضر.. وطن لم تقعده الدكتاتورية
وقطع البشير بأن تغيير الحكم في السودان لن يكون إلا عبر الانتخابات، إذ إن الشعب السوداني هو الذي يقرر من الذي يحكمه، مضيفًا "نحن مع خيار الشعب السوداني، ونحترم خياره ورجعنا السلطة للمواطنين لأجل أن يختاروا رئيسهم ونوابهم ويختاروا حكومتهم بمحض إرادتهم، عبر انتخابات حرة يكونوا هم أسيادها إن شاء الله"، فيما تذرع بمرور السودان بضائقة وحصار اقتصادي وإعلامي ودبلوماسي وحرب وتمرد وكل أنواع التآمر، وأن القوى المعادية للإسلام والعرب لا يريدون استقرار السودان، وسيعملون لزعزعة أمنه ومن ثم انهياره من خلال المؤامرات، كما بقية الدول، في إشارة إلى العراق وليبيا وسوريا.
الأمن ضد الحكومة
على ذات النحو مضى مدير الأمن والمخابرات السوداني الفريق صلاح قوش، الذي وجه انتقادات شديدة اللهجة للحكومة، وحملها المسؤولية لما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية، والتضييق على الشباب، ونفى بالمرة استخدام السلاح الناري، متهمًا فتاة بقتل الطبيب أبوبكر، وقال أنهم سيقدمونها للمحاكمة. واعترف قوش في "تسجيل صوتي مسرب" بتجاوزات حدثت في الأيام الأولى للتظاهرات، مؤكدًا حرص القوات الأمنية علي أمن وسلامة المواطنين، وأن ذلك واجبها الدستوري.
واتهم مدير الأمن من أسماهم بالمندسين بالاعتداء على المتظاهرين، كاشفًا عن (700) مظاهرة خرجت للشارع منذ بداية الأزمة في كانون الأول/ ديسمبر، وقال إنهم استطاعوا توثيق كل المظاهرات عبر الستلايت، كما أقر أيضًا بضعف أداء الجهاز التتفيذي للدولة وأوضح أنه أدى لحمل المواطنين للخروج والتظاهر، إلا أنه زعم أن المظاهرات لن تسقط الحكومة وإن استمرت بالشهور.
الصوفية ومواكب التنحي
في مواصلة لتصعيد الاحتجاجات، أعلن تجمع المهنيين السوداني، الذي يضم نقابات ظل مهنية وقوى سياسية معارضة عن تسيير مواكب إلى القصر الرئاسي نهار يوم الخميس، وحدد التجمع "17" داخل العاصمة الخرطوم نقطة للتجمع والانطلاق، مشددًا على ضرورة أن تلتزم المواكب بالسلمية ﻓﻲ ﻛﺎﻓﺔ ﺧﻄﻮاتهم ﺍﻟﺴﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﺘﻐﻴﻴﺮ، داعيًا ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﺇﻟﻰ ﺭﻓﻊ ﺍﻟﻼﻓﺘﺎﺕ ﻭاﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﻣﻜﺒﺮﺍﺕ ﺍﻟﺼﻮﺕ ﻭﺍﻟﻬﺘﺎﻓﺎﺕ ﺍﻟﻤﻮﺣﺪﺓ ﻭﺍﻷﻋﻼﻡ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﺗﻌﺒﻴﺮًا عن ﻭﺣﺪﺓ ﺍﻟﺼﻒ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﺗﺠﺎﻩ ﻗﻀﻴﺔ ﺭﺣﻴﻞ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ، مع تأكيده على ﺘﻮﻓﻴﺮ ﻏﺮﻑ ﻃﻮﺍﺭئ ﻟﻠﻤﺼﺎﺑﻴﻦ ﻭﺍﻟﺠﺮﺣﻰ.
وحتى تكتسب التظاهرات زخمًا شعبيًا، كشف تجمع المهنيين عن مشاركة الطرق الصوفية في موكب الخميس، حيث تحظى جماعات الطرق الصوفية في السودان بولاء قطاعات واسعة من المجتمع السوداني، أو من "ﻋُﺮﻓﻮﺍ ﺑﺎﻟﻮﺭﻉ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺠﺎﺩﺓ ﻭﺍﻹﻗﺪﺍﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺎﺣﺎﺕ" وفقًا لبيان التجمع، وأبرزهم "ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺃﺯﺭﻕ ﻃﻴﺒﺔ، وﺍﻟﺸﻴﺦ ﺃﺣﻤﺪ ﺍﻟﻄﻴﺐ ﺯﻳﻦ ﺍﻟﻌﺎﺑﺪﻳﻦ، وﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻟﻴﺎﻗﻮﺕ، وﺍﻟﺸﻴﺦ ﻣﺤﻤﺪ ﺣﺎﻣﺪ ﻳﻮﻧﺲ"، وهؤلاء داعمون لمطالب الشارع السوداني.
تداعيات تشييع النمير
ولعل أكثر ما أشعل الغضب يوم الثلاثاء إعلان مقتل المهندس الفاتح النمير، الذي أصيب في تظاهرات الأسبوع الماضي، حيث اختلط الغضب والحزن أثناء تشيعه في مقابر أم درمان غرب الخرطوم، وشهدت المدينة خروج الآلاف في تظاهرات استمرت حتى الصباح، رغم استخدام الغاز المسيل للدموع، فيما استعانت ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ بآليات ﻹﺯﺍﻟﺔ ﺍﻟﺤﻮﺍﺟﺰ الإسمنتية ﻭﺍﻟﻤﺘﺎﺭﻳﺲ ﻭﺑﻘﺎﻳﺎ ﺍﻹﻃﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻤﺤﺘﺮﻗﺔ، وأطلقت البمبان حتى داخل صيوان العزاء لتفريق المحتشدين، وهو ما وجد استهجانًا واسعًا من الشارع السوداني ومنظمات المجتمع المدني، تحديدًا انتهاك حرمات الموتى وترويع المرضى في المستشفيات والبيوت.
مبادرة جامعة الخرطوم
وفي محاولة لكسر جمود الصمت السياسي تقدمت جامعة الخرطوم بمبادرة لطي الأزمة السودانية، حيث وقع أكثر من مئتي أستاذ جامعي على مبادرة تحصل "ألترا صوت" على نسخة منها، وجاءت تحت عنوان "مقترح لآليات الانتقال السلمي للسلطة"، حثت على الشروع الفوري في تكوين هياكل للسلطة الانتقالية، وتكوين جسم سيادي يمثل الأقاليم الجغرافية الستة، وتمثيل للقوات النظامية لضمان إكمال الفترة الانتقالية بنجاح دون عقبات، على أن "تقتصر سلطة هذا الجسم السيادي على النواحي السيادية والتمثيلية".
ودعت المبادرة التي أيدتها شخصيات سياسية وعسكرية وإعلاميين إلى تشكيل حكومة كفاءات تضع البلد في بر الأمان، وتشرع في الوقت نفسه في إحلال السلام عبر ترتيبات وقف الحرب ومعالجة آثارها الإنسانية الُملحة، ثم تسوية المسائل السياسية، والدعوة لقيام انتخابات الحكم المحلي بعد عام من بدء الفترة الانتقالية، وتكوين مفوضية مختصة بقضايا العدالة الانتقالية تكون من مهامها، بالتعاون مع المنظومة العدلية، التحقيق في الجرائم والتجاوزات التي ارتكبت بحق الشعب السوداني خلال الحقبة الماضية وتحقيق العدالة والمصالحة، و"معالجة قضايا الفساد ونهب المال العام عبر مفوضية مستقلة أيضًا"، وفقًا لمبادرة أساتذة الجامعة الأعرق في السودان.
نيران الجيش في بورتسودان
في مدينة بورسودان شرق البلاد، حدثت تطورات نوعية إثر خلاف بين الجيش والقوات الأمن، وقالت مصادر صحفية إن الجيش أخلى كورنيش البحر الأحمر من المواطنيين، وسمع بعدها أصوات إطلاق نيران كثيفة في المدينة الساحلية، وكشفت المصادر عن وقوع إصابه لضابط بالجيش السوداني أثناء المواجهات التي حدثت بالقرب من الكورنيش.
وكشفت مصادر محلية لـ"ألترا صوت" عن تعرض ضابط من الجيش في مدينة بورتسودان، لمضايقات من قوات الأمن أثناء إجرائه معاملة بالمدينة، وبعد انتهاء معاملته قام بإرسال سيارات الجيش للتعامل مع قوات الأمن، ورغم التكتم على الحادثة إلى أنها انتشرت في كل أنحاء البلاد، وسط دعوات في الشارع السوداني لتدخل الجيش وحماية المواطنيين من قمع الشرطة والأجهزة الأمنية.
تضييق على الحريات
على نحوٍ آخر، تعرضت أجهزة الإعلام المحلية والخارجية إلى عمليات تضييق واسعة، عن طريق مصادرة الصحف وايقاف عدد من مراسلي الوكالات والقنوات الفضائية، وكشفت شبكة الصحفيين السودانيين عن سحب ﺗﺮﺍﺧﻴﺺ ﻣﺰﺍﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻬﻨﺔ ﻋﻦ ﻣدير مكتب ﻗﻨﺎﺓ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ في الخرطوم، ﻭﻣﺮﺍﺳﻞ ﻭﻛﺎﻟﺔ ﺍﻷﻧﺎﺿﻮﻝ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺔ ﻭﻤﺼﻮﺭ آخر، ﻭﺭﻓﺾ ﺗﺠﺪﻳﺪ ﺗﺮﺍﺧﻴﺺ ﻣُﺮﺍﺳﻠﻲْ ﻗﻨﺎﺓ ﺍﻟﺠﺰﻳﺮة. ووصفت الشبكة ما جرى "باﻟﺤﻤﻠﺔ ﺍﻟﻤﺴﻌﻮﺭﺓ ﻭﺍﻟﺘﻀﻴﻴﻖ ﻋﻠﻰ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻹﻋﻼﻡ ﺍﻟﻤُﺨﺘﻠﻔﺔ"، مؤكدة ﺃﻥّ "ﺗﺼﺮﻓﺎﺕ ﺟﻬﺎﺯ ﺍﻷﻣﻦ ﺍﻟﻬﻮﺟﺎﺀ ﻟﻦ ﺗﺰﻳﺪ ﺍﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﺔ ﺇﻻ ﺻُمودًا ﻭﺇﺻﺮﺍﺭًا ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ"، على حد وصف الشبكة.
عطفًا على ذلك يشتكي المراسلون في السودان بشكل عام من تضييق عنيف تمارسه الجهات الأمنية على العمل الميداني، ولا يسمح إطلاقًا بتصوير التظاهرات، بجانب عدم الرضى الذي تبديه الحكومة من تغطية الفضائيات للمظاهرات، وكان وزير الإعلام السوداني بشارة جمعة، قد انتقد أداء تلك الفضائيات، ووصفها بـ"المغرضة والباحثة عن إثارة الفتن"، وهو على ما يبدو السبب في التضييق المستمر عليها مؤخرًا.
غضبة في البرلمان
أما داخل البرلمان السوداني، فلا يبدو الوضع هادئًا إطلاقًا، وذلك بعد تحركات من الحزب الحاكم لرفع الحصانة عن نائب مستقل كان قد اتهم الأجهزة الأمنية بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، مما تسبب في سقوط ضحايا، وهو ما اعتبره الحزب الحاكم اتهامًا يستوجب المحاسبة، كما يعتزم تحالف النواب المستقلون بالمجلس الوطني، الدعوة لعقد جلسة طارئة للبرلمان، لمناقشة ما طرأ من مستجدات بالسودان أبرزها "التظاهرات وما نتج عنها من وفيات، والغلاء الطاحن، وفشل الطاقم الاقتصادي، وضعف مجلس الوزراء". ويعكف التحالف على وضع رؤية لحل أزمات البلاد الراهنة، ستسلم لرئاسة الجمهورية، في وقت لم يحدد بعد.
اقرأ/ي أيضًا: جمعة الغضب في السودان.. السلطة تقمع والشعب يواصل احتجاجه
العالم يشعر بالقلق
ولا تزال ردود الأفعال الخارجية متواصلة، إذ يبدو أن العالم يراقب الأحداث الجارية في السودان بقلق، حيث نادت فرنسا بتكوين لجنة تحقيق مستقلة في ضحايا التظاهرات والسماح لدعوات التظاهر السلمية، كما أعربت الحكومة الأمريكية عن رفضها للاستخدام المفرط للقوة والاعتقالات والقتل الذي تمارسه السلطات السودانية ضد المتظاهرين، وأعلنت تأييدها مطالب الشارع السوداني وحقه في التعبير والإصلاح السياسي والاقتصادي، وأشارت إلى أن ﺛﻤﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻭأﻛﺜﺮ إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻭﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﺍﺻﻼﺣًا ﺳﻴﺎﺳﻴًا ﺫﺍ ﻣﻐﺰﻯ ﻭﺗﻘﺪمًا واضحًا ﻭﻣﺴﺘﺪﺍمًا ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﺣﺘﺮﺍﻡ ﺣﻘﻮﻕ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ.
تعرضت أجهزة الإعلام المحلية والخارجية في السودان إلى عمليات تضييق واسعة، عن طريق مصادرة الصحف وإيقاف عدد من مراسلي الوكالات والقنوات الفضائية
وكما يبدو فإن الحكومة السودانية عاجزة عن اجتراح حلول للأزمة، وسط تمدد هائل للفجوة بينها والشارع المعارض، ما اضطر وزير الإعلام بشارة جمعة، إلى مغازلة زعيم كيان الأنصار الصادق المهدي، قائلًا إن الصادق المهدي من حكماء السودان وسياسي محنك، مشيرًا إلى أنه أحد القيادات البارزة، وله مواقف وطنية، وطالبه بالتدخل والتوسط لحل الأزمة الحالية قائلًا: "نتوقع من المهدي مبادرات ومواقف وأفكار وتصورات تساهم في حل أزمة البلاد وتقود القوى السياسية المتصارعة، سواء كانت أحزاب أو حركات إلى الجلوس مرة أخرى وتخطي العقبات وإعلاء الشأن الوطني".