الفوضى المتسقة في موسم الهجرة إلى الشمال: الذاكرة الهوياتية في سريالية بنيوية
16 يونيو 2025
موسم الهجرة إلى الشمال تبدأ بعودة أحد أبناء الجيل الثاني من المتعلمين في بلاد المُستعمِر ولقائه أحد أبناء الجيل الأول منهم، الراوي الذي لا نعرف اسمه حتى نهاية فصول الرواية مع مصطفى سعيد.
لقاء بين غريبين -غريبَين عن نفسيهما وعن الأرض- ويمكننا أن نصف شدة الغربة عند كل واحد منهما بالجيل الذي ينتمي له، فكان مصطفى سعيد غريبا من الدرجة الأولى، حيث لم يكن ينتمي لأب أو أم ناهيك عن وطن وأرض:
"كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق. لعلني كنتُ مخلوقًا غريبًا أو لعل أمي كانت غريبة… لا دموعَ ولا قُبَل ولا ضوضاء. مخلوقان سارا شطرًا من الطريق معًا، ثم سلك كل منهما سبيله".
ربما كان الراوي أفضل حظًّا -بعض هذا الحظ في وجود جده، ممثِّلًا المرساة والبوصلة- أو ربما كان فقط ساذجًا بعض الشيء:
"أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي”.
يلتقي الغريبان لتُكشَف أسرار كثيرة، وليروي الماضي نفسه في تأرجح مستمر ليتشابك مع الحاضر.
الفوضى المتسقة، وما قد يكون سببًا في هذه الفوضى؟ وماهي عناصر الفوضى هذه؟ وكيف تكون متسقة في شكلها الفوضوي؟
هذه الفوضى حسب ظني هي فوضى الهوية الاستعمارية داخل كل من نفس الراوي ومصطفى سعيد، فهي كالمرض، كالطفيلي، وهناك رحلتان؛ الرحلة الأولى هي رحلة الراوي لاكتشاف هذا الطفيلي -الجرثومة الكذبة-، ثم الرحلة الثانية هي رحلة مصطفى سعيد لاجتثاث هذا الطفيلي.
تأرجُحت باستمرار بين صفحات موسم الهجرة إلى الشمال، يمنة ويسرة، من الشمال وإلى القرية الصغيرة عند منحنى النيل، من على لسان الراوي وإلى لسان مصطفى سعيد، من الحاضر إلى قفزات مفاجئة للماضي، وحين نقفز إلى الماضي فنحن نقفز إلى أوقات كثيرة في نفس الوقت، وقت قبل وقت، نرجع ونتقدم في الماضي نفسه بلا قيود. نسمع ذكرى "جين مورس" تروى داخل ذكرى "آن هاموند"، وكل هذا ما هو إلا ذكرى للراوي حكاها له مصطفى سعيد، هنا نرى أن القفزات نفسها تأرجحت بين الراوي ومصطفى سعيد، تبدأ السطر الواحد مع الراوي وتختتم مع مصطفى سعيد. هنا أحسست أن الراوي ومصطفى سعيد شيء واحد أو لنقل توأم مختلف أو لنقل تفاحة حمراء وأخرى خضراء. ليس هناك فرق في الحالة النفسية بين الشخصيتَين ولا فرقٌ كبير في تاريخ كلِا الشخصيتَين، هنا سيعترض أحدهم ويذكرنا بالتاريخ الجنسي والدموي -برمزيته- البغيض لمصطفى سعيد، وهنا أقول هذا أحد أكثر الأشياء إزعاجًا للراوي في ذاته التي لا يراها إلا بعد أن يرى مصطفى سعيد. أظن أنه من المعهود القول في رواية موسم الهجرة إلى الشمال أن الطيب صالح -الكاتب- هو مصطفى سعيد أو الراوي -شخصيات الرواية-، لكن ما كان مثيرًا في نظري هو أن الراوي هو مصطفى سعيد ومصطفى سعيد هو الراوي، هويتان ضائعتان في عالم فوضوي، فوضى داخلية لكلا الشخصيتان وفوضى خارجية تحويها الرواية في صفحاتها.
مَن يحكي ماذا، ومتى يحكيه؟ لعل لذوبان شخصية الراوي في شخصية مصطفى سعيد والعكس وصعوبة التفريق بين الاثنين رمزية تتناسب ونوع الرواية ما بعد الاستعمارية
إذن هل سيكمل الرواية الراوي أم مصطفى سعيد، ما أعنيه هو: مَن يحكي ماذا، ومتى يحكيه؟ لعل لذوبان شخصية الراوي في شخصية مصطفى سعيد والعكس وصعوبة التفريق بين الاثنين رمزية تتناسب ونوع الرواية ما بعد الاستعمارية، حيث تنصهر شخصية المُستعمِر في المُستَعمَرين -أو تنصهر الشخصية التي يمنحها المستعمِر للمستعمَر مع الهوية التي لا تتفق معها- وتتشابه الأجيال الأولى والثانية، غير أن الثانية أكثر أملًا.
ثمة تعقيدات وتنقلات سريعة بين الأزمنة والأمكنة وحتى الأشخاص، ويطغى احساس بالتوهان داخل أحداث الرواية، بين أوقات وشخصيات وأماكن الأحداث؛ فالرواية على عجل تمامًا كشخصياتها. ثم يقع حدث مفصلي يعيد إحساس الترتيب والنظام في نفس القارئ وفي نفس الشخصيات كذلك. فكلٌ من الراوي ومصطفى سعيد والرواية هم في فوضى نفسية وفيزيائية تترتب وتنتظم لاحقًا. كيف تُنتج الفوضى في الرواية؟ من التفاعلات بين الشخصيات، ثم تستدير الفوضى حول حدث أو حدثين تدخله وتخرج منه منتظمة وهادئة. الحدث المفصلي هذا نفسه يتسم بخصائص محددة تخوله أن يصبح حدث اتساق.
التسلسل الزمني المتأرجح بين الشيء والشيء الآخر، المركب تركيبًا عجيبًا من تسلسل متعرِّج "Zig-zag" وتسلسل مركَّب "Complex Chronology" أضفى سمة نفسية فوضوية تمامًا، كالحالة النفسية لكلا الراوي ومصطفى سعيد المتأرجحين فوق النيل بين الشمال والجنوب، على القطار بين الشمال والجنوب.
علاقة الحب والكره في الرواية أيضًا شيء متأرجح وغير متوقع ومزعج في الحقيقة.
الفوضى والاتساق في بنية الرواية
لا تخلو معظم الصفحات من أشكال سريالية لرواية الأحداث، وهذه السريالية ساحرة، سحرية متفجرة، تتجلى بعضها في التنقلات السلسة العجيبة من شكل إلى شكل ومن مكان إلى مكان فتثار الفوضى. فمثلًا هُنا:
"لكن أرجو ألا يتبادر إلى أذهانكم، يا سادتي، أن مصطفى سعيد أصبح هوسًا يلازمني... كانت تمر أشهر دون أن يخطر على بالي أنه مات على أي حال، غرقًا أو انتحارًا. آلاف الناس يموتون كل يوم. ولو وقفنا نتمعن لماذا مات كل منهم وكيف مات، ماذا يحدث لنا الأحياء؟ الدنيا تسير، باختيارنا أو رغم أنوفنا. وأنا كملايين البشر، أسير، أتحرك بحكم العادة في الغالب، في قافلة طويلة، تصعد وتنزل، تحط وترحل... قد يكون السير شاقًّا بالنهار، البوادي تترامى أمامنا كبحور ليس لها ساحل. نتصبب عرقًا وتجف حلوقنا من الظمأ، ونبلغ الحد الذي نظن أن ليس بعده متقدم. ثم تغيب الشمس ويبرد الهواء... وأحيانًا نسري بالليل ما طاب لنا السرى، وحين يبين الخط الأبيض من الخيط الأسود نقول: عند انبلاج الصبح يحمد القوم السُّرَى".
لاحظ كيف تنقل المعنى من مصطفى سعيد وموته وأن الحياة لم تقف عند موته هذا المجاز الذي يتحول إلى فعل واقعي يصف سير الراوي. لنقف قليلًا نترجم ما حدث هنا فهو كثير، لِمَ أراد الراوي أن يقنع نفسه بشيء غير حقيقي؟ بالتأكيد كان الراوي مهووسًا بمصطفى سعيد حتى بعد موته، ورغم أنه تحدّث عن سير الحياة وحتى أنه هو كان فيزيائيًا يسير، إلا أن الأحداث العجيبة كانت في الحقيقة تعود -كما الذاكرة التي تعود دومًا- إلى القرية.
يسهب الراوي في وصف الرحلة غير مُعرفٍ الوجهة ولا نعرفها إلا بعد قراءة الصفحة التي تليها وبصيغة غير مباشرة لكنها كالسحر:
"ذلك أبي وأولئك أعمامي وأولاد أعمامي وقد ربطوا حميرهم في شجر الجميز. لا يفصل ضباب بيني وبينهم هذه المرة، فأنا قادم من الخرطوم".
لماذا يسير عائدًا إلى القرية؟ بدل أن يسير ذاهبًا إلى الخرطوم؟ لنقرأ مرة أخرى:
"لكن أرجو ألا يتبادر إلى أذهانكم، يا سادتي، أن مصطفى سعيد أصبح هوسًا يلازمني... كانت تمر أشهر دون أن يخطر على بالي أنه مات على أي حال، غرقًا أو انتحارًا. آلاف الناس يموتون كل يوم. ولو وقفنا نتمعن لماذا مات كل منهم وكيف مات، ماذا يحدث لنا الأحياء؟ الدنيا تسير، باختيارنا أو رغم أنوفنا. وأنا كملايين البشر، أسير، أتحرك بحكم العادة في الغالب، في قافلة طويلة، تصعد وتنزل، تحط وترحل... قد يكون السير شاقًّا بالنهار، البوادي تترامى أمامنا كبحور ليس لها ساحل. نتصبب عرقًا وتجف حلوقنا من الظمأ، ونبلغ الحد الذي نظن أن ليس بعده متقدم. ثم تغيب الشمس ويبرد الهواء... وأحيانًا نسري بالليل ما طاب لنا السرى، وحين يبين الخط الأبيض من الخيط الأسود نقول: عند انبلاج الصبح يحمد القوم السُّرَى".
هذا التنقل العجيب من السير مجازًا إلى السير فِعلًا -ولكن إلى الوراء- أثار نفسي جدًا.
الفوضى في حياة الراوي وانعكاسها على الرواية
الراوي هو روح الرواية، والحالة النفسية للراوي هي نبرة السرد (الـTone) بالنسبة للرواية، تبدأ صافية منتعشة كما نفس الراوي:
"عدت إلى أهلي يا سادتي"
ثم تأخذ الرواية منحنيات أكثر تعقيدًا مع تعرفنا على مصطفى سعيد (عنصر الفوضى) وكلما عرَفنا المزيد عن مصطفى زادت الرواية اضطرابًا باضطراب الراوي.
تشابه شخصية الراوي شخصية مصطفى شبهًا عميقًا يحسه الراوي ولا يقوله صراحة، كلما ازداد الراوي وعيًا بهذا الشبه ازداد اضطرابه واضطراب الرواية. كانت آمال الراوي واضحة ومنظمة، حتى وصول مصطفى سعيد الذي يبث الفوضى في حياة كلٍ من الراوي وحسنة وود الريس والرواية لتصبح سردًا غير منضبط بضابط معين، يظهر فيها مصطفى سعيد وقتما أراد. ولكن لماذا أدى اكتشاف الراوي لمصطفى سعيد إلى اضطراب الراوي وبالتالي الرواية؟
لا يحتاج المُستعمِر لوجود سيرة ذاتية لمُستَعمَريه حتى يمحوها لاحقًا، ما يقوم به الاستعمار هو التعرف على الأفراد لا كأفراد، بل كجماعة كاملة، ثم يُعَرِّف هذه الجماعة تعريفًا لا يُناسبهم هم، بل يناسِبُه هو
لاحقًا سنذكر مصطفى سعيد كعنصر فوضى، قبل ذلك لنذكّر بالطبيعة النفسية لثلاثة: الراوي ومصطفى سعيد والاستعمار، وتفاعل الثلاثة عناصر: علاقة مصطفى سعيد مع الراوي علاقة مرآة، غير أن مصطفى سعيد كان يسعى بصورة واعية أن يرى نفسه وهويته من خلال الراوي، كان يأمل أن يقوم الراوي بلملمة قصاصات حياته المبعثرة (رمزية غرفة الطوب الأحمر) حتى يصنع له الراوي سيرة ذاتية، الأمر الذي فشل مصطفى سعيد أن يصنعه لنفسه. وكيف فشل مصطفى سعيد في صنع سيرة ذاتية لنفسه؟ قرأت ورقة رائعة لعبد الله علي إبراهيم بعنوان: "المُستعمَر حالةً من التجريد من السيرة الذاتية The Colonized: A State of Biography-less-ness" يذكر فيها خسارة مصطفى سعيد للسيرة الذاتية، أو بمعنى أدق تجريد الاستعمار للمستَعمَرين من سيرتهم الذاتية، لا يحتاج المُستعمِر لوجود سيرة ذاتية لمُستَعمَريه حتى يمحوها لاحقًا، ما يقوم به الاستعمار هو التعرف على الأفراد لا كأفراد، بل كجماعة كاملة، ثم يُعَرِّف هذه الجماعة تعريفًا لا يُناسبهم هم، بل يناسِبُه هو. مثلًا، الذي قام به مصطفى سعيد عند التقائه بكل النسوة الأوروبيات، هو أنه سمح لهن، هنَّ، أن يعرِّفنَه، وأي تعريف أُعطِيَ له قام هو بقبوله. ولكن مصطفى سعيد كان واعٍ جدًا طبعًا بمشكلة الهوية هذه فلم يعرّف هو نفسه بما عرفنه هنَّ به، ولا ما عرَّفَتْه به المحكمة، بالرغم من أنه قبِل هذه التعريفات، ولذلك، خلال جلوسه في المحاكمة أعلَن هذه المفارقة علنًا:
"في قاعة المحكمة الكبرى في لندن، جلستُ أسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني، كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمُّنِي أمره ... مصطفى سعيد الذي تتحدثون عنه غير موجود، فهو ليس إلا كذبة".
أما بالنسبة للراوي فلم يكن واعيًا فعلًا بعلاقة المرآة هذه، أو أنه هو أيضًا كان يحاول أن يرى نفسه خلال مصطفى سعيد، وعندما رأى ما رآه في مصطفى تكشّفت له نفسه -فوضى نفسه- فبدأ هذا الاضطراب. يمكنني القول أن مصطفى سعيد خالٍ من الهوية بينما يمتلك الراوي هوية مشوهة، فمثلما أسلفت كان الراوي محظوظًا بوجود جذر ما يربطه بهذه الأرض وإن امتدت فروعه إلى حيز آخر. أما مصطفى سعيد، كما ناقش عبد الله علي إبراهيم في عنوانه "الأسرة البديلة" (Surrogate Family):
من الناحية الثقافية، لا يُعد المُستعمَر عضوًا في عائلة بيولوجية أصلية لتلعب الديناميكيات الفرويدية دورها، بل هو نتاج عائلة بديلة استعمارية اختطفته من ديناميكيات الهوية الفرويدية القياسية لإخضاعه لعمليات غريبة. ولعله ليس من قبيل المصادفة أن يحدد الطيب صالح في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" تاريخ وفاة والد مصطفى سعيد، بطله، في آب/أغسطس 1898، قبل شهر من الاحتلال البريطاني للسودان. خرج الأب البيولوجي، وكان الأب البديل موجودًا. ومن ثم، ربما لم يكن من قبيل الصدفة أن يذكر صالح لقاء محمود ود أحمد، القائد المهدي الذي أُرسل لوقف الجيش الغازي عند نهر عطبرة، وكيتشنر، الضابط البريطاني الذي قاد غزو السودان. وفي انقلاب ساخر للأدوار، سأل كيتشنر محمود: "لماذا أتيت إلى بلدي لتخريبها ونهبها؟"، وأبرز صالح المفارقة في اللقاء: "محمود، صاحب الأرض، انحنى رأسه ولم يقل شيئًا".
تضطرب بنا الرواية حتى تصبح كل الأحداث فوضوية يصعب الإمساك بخطها الزمني
تضطرب بنا الرواية حتى تصبح كل الأحداث فوضوية يصعب الإمساك بخطها الزمني، أعتقد أن ثلاثة أرباع أحداث الرواية هي تجميعة من الذكريات لشخصيات الرواية أصلًا، ويمكننا أن نقول إذن أن هذه الفوضى لا ترجع فقط للتعقيد الكرونولوجي، بل في كونها رواية تتداخل فيها ذكريات شخصيات مختلفة بصورة غير مرتبة وناقصة دائمًا كأنها كوابيس الحُمى.
الراوي الذي أصبح عقله مسرحًا لعرض ذكريات مصطفى سعيد، لا نحن ولا هو يعرف أين يقف الراوي وأين يبدأ مصطفى سعيد، ونتأرجح معه وهو عالق بين الأمل وبين قسوة واقع الأمور:
"هذه أرض الشعر والممكن، وابنتي اسمها آمال. سنهدم وسنبني وسنخضع الشمس ذاتها لإرادتنا وسنهزم الفقر بأي وسيلة"
"هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال إنه أكذوبة فهل أنا أيضًا أكذوبة؟".
مع هذا الاضطراب يرسم الطيب صالح لوحات سريالية فريدة تزداد غرابتها مع اقتراب ذروة الرواية.
الذروة هي الحدث الذي يعد عَتَبة تناسق الرواية -بالنسبة لي- وهي الجريمة التي ترتكبها حسنة. هذا الحدث العجيب ليس عجيبًا في نفسه فقط، بل العجيب هي اللوحة الغامضة والغريبة التي يرسمها الطيب صالح لتكون هذه الجريمة جزءًا واحدًا فقط من عدة أجزاء تكون هذه اللوحة. أتخيل أن الأحداث وطريقة الحكي السريالية تخرج من حدث الجريمة ثم تتجه لتفضي إليه.
يبدأ الراوي رحلة، رحلة بالرغم من أنها متجهة بعيدا من القرية وإلى الخرطوم، ولكنها مليئة بالإشارات إلى القرية وساكنيها، مصطفى سعيد -حسنة- محجوب والإلماحة الروائية (Foreshadowing) التي تليها الجريمة تجعلك تظن أن الراوي كان أصلًا متجهَا إلى القرية، والحقيقة أنه كان في طريقه إلى الخرطوم. وأيضًا مما يجعلك تجزم برحلة الراوي إلى القرية أن الفصل الذي يلي الإلماحة لا يحكي قصة للراوي في الخرطوم مثلًا، بل يبدأ الفصل بوصول الراوي إلى القرية وهو كان متجه إلى الخرطوم في الفصل الذي قبله.
لنفكك أجزاء اللوحة معًا واحدة واحدة ثم نعيد تركيبها كي نفهم:
"احتفلنا بختان الولدين وعدت إلى الخرطوم. تركت زوجتي وابنتي في البلد، وسافرت في الطريق الصحراوي في سيارة من سيارة المشروع التي ذكرها محجوب".
نبدأ رحلة محمومة مليئة بالهلوسات:
"ومصطفى سعيد، وجهه ينبع واضحًا في خيالي كما رأيته أول يوم، ثم يضيع في أزيز محركات السيارة، وصوت احتكاك بحصى الصحراء، وأحاول جاهدًا استعادته فلا أستطيع".
هذه الحمى والاضطراب كله يحضرنا للحدث الرهيب الذي نحن بصدده.
ثم ذكريات فوضوية لا علاقة للواحدة منها بالأخرى تأتي مندفعة، عندما تقرأ تشعر أن هذه الذكريات لا تأتي الواحدة تلو الأخرى، بل أن كل هذه الذكريات المختلفة حاضرة كلها في نفس الوقت والراوي يعوم وسطها:
"يوم الاحتفال بختان الولدين، خلعت حسنة الثوب عن رأسها ورقصت كما تفعل الأم يوم ختان ولديها. يا لها من امرأة. لماذا لا تتزوجها أنت؟ وكيف كانت إيزابيلا سيمور تناجيه (اقتلني أيها الغول الأفريقي)". الذكرى الأولى عن حسنة، الثانية شيء قاله محجوب، ثم ذكرى تخص مصطفى سعيد. إذا أمعنت النظر ربما تفهم صلاتها ببعض وتناسقها.
كل ما ذكرته أجزاء مهمة في هذه اللوحة، ولكن هناك خصوصية لحدث معين، حدث الإلماحة أيضًا لا يخلو من السريالية، وهناك شيء في الإلماحات عند الطيب صالح تميزها عن أي إلماحة في روايات أخرى، لقاء فريد أثناء الرحلة ومحادثة مصابة بالحمى:
"لقينا سيارة حكومية معطلة حولها خمسة عساكر وشاويش متدرعين بالبنادق… قالوا إن امرأة من قبيلة المريصاب قتلت زوجها والحكومة ذاهبة لتقبض عليها… قلت لهم انها لم تقتله، بل هو مات من ضربة الشمس".
تصريح علني عن جريمة حسنة، علني وغامض، الكارثة واضحة أمامنا وضوح الشمس، ولكن السريالية جعلت الإلماحة كأنها حدث منفصل: "قلت لهم إنها لم تقتله، بل هو مات من ضربة الشمس"، حمى في عقل الراوي.
تتواصل العناصر السريالية وتزداد في غرابتها وحُمِيتها حتى نشهد المغيب، وبعد العِشاء تتغير طريقة السرد المحمومة إلى أخرى سكرانة.
صف السواقون سياراتهم على هيئة دائرة، وسلطوا مصابيحها على حلقة رقص في الوسط. في تلك الصحراء في الليل منظر عجيب:
"فاشتعلت شعلة من الضوء لا أحسب تلك البقعة رأت مثلها من قبل. وزغرد الرجال كما تزغرد النساء وانطلقت أبواق السيارات جميعًا في آن واحد. وجذب الضوء والضجة البدو من شعاب الوديان وسفوح التلال المجاورة، ورجال ونساء، وقوم لا تراهم بالنهار كأنهم يذوبون تحت ضوء الشمس، اجتمع خلق عظيم ودخلت الحلقة نساء حقيقيات، لو رأيتهن نهارًا لما أعرتهن نظرة، ولكنهن جميلات في هذا الزمان والمكان... وردد الليل والصحراء أصداء عرس عظيم كأننا قبيل من الجن. عرس بلا معنى، مجرد عمل يائس نبع ارتجالًا كالأعاصير الصغيرة التي تنبع في الصحراء ثم تموت". هكذا انتهت الرحلة العجيبة ليبدأ فصل الجريمة.
لنرجع مرة أخرى إلى ما ذكرته أولًا، يبدأ الفصل برحلة متجهة إلى الخرطوم ينتهي ليبدأ الفصل الذي بعده بوصول الراوي إلى القرية:
"احتفلنا بختان الولدين وعدت إلى الخرطوم. تركت زوجتي وابنتي في البلد، وسافرت في الطريق الصحراوي في سيارة من سيارة المشروع التي ذكرها محجوب".
ثم:
"وخرجت وصافحني محجوب وهو يتجنبني بنظراته. كان وحده في استقبالي هذه المرة… قلت له: كيف تركتم هذا يحدث؟". هذه المأساة هي ما دفع الراوي لاقتحام غرفة مصطفى سعيد ذات السقف المثلث، هذه المأساة هي ما جعلت الراوي يدرك أين يقف هو، هل هو في الشمال أم هو في الجنوب، هل يغرق مثل مصطفى سعيد لتنتهي الأكذوبة أم يواصل العوم إلى الضفة الأخرى من النهر؟ لاحظ الفرق بين الافتتاحية وبين الخاتمة المأساوية:
"قلبي متفائل.. إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة، أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لابد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملًا واضحة بخط جريء".
ثم:
"تلفت يمنة ويسرة، فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المضي ولن أستطيع العودة".
"وقد كانت تلك لحظة اليقظة من الكابوس، استقرت السماء واستقر الشاطئ… كان ذهني قد صفا حينئذ، وتحددت علاقتي بالنهر، إنني طاف فوق الماء ولكنني لست جزءًا منه… طول حياتي لم أختر ولم أقرر. إنني أقرر الآن، إنني أختار الحياة. سأحيا لأن ثمة أناس قليلين أحب أن أبقى معهم. إذا كنت لا أستطيع أن أغفر فسأحاول أن أنسى".
موت حسنة وود الريس هو حدث الاتساق، هو حدث التنفيس لكل ذاك الاحتقان. والحدث المنظم للرواية لا بد أن يأتي بعد كثير من المقدمات السريالية والغريبة، لتكون هذه المقدمات الغريبة والأحداث غير المفهومة افتتاحية تعد جزءًا لا يتجزأ من الحدث نفسه.
لماذا الجريمة كحدث اتساق؟
الخسارة عند الشخصيتَين، مصطفى سعيد والراوي، هي حدث التطهير، بالرغم من أن مصطفى سعيد ظل يخسر ويخسر حتى أتت خسارة حياته لتكون حدث التطهير الذي سعى لإيجاده في هذه القرية الصغيرة، وأنا أكتب هذا المقال، أقع في حب تراجيديا مصطفى سعيد.
أما الخسارة عند الراوي يمكن تلخيصها ببساطة في خسارته لحسنة زوجة مصطفى سعيد التي وقع هو بحبها. ولكن لمعنى أكثر دقة للخسارة، شخصية حسنة بالكامل رمزية لأشياء عديدة؛ حسنة هي صلة تصل بين الراوي ومصطفى سعيد لتضمن استمرار تلك العلاقة المرآتية، التي يرى خلالها الراوي نفسه بوضوح، بخسارتها يخسر هذه العلاقة المرآتية. قرأنا في الرواية أن حسنة تغيرت تمامًا بعد الزواج من مصطفى سعيد (أصبحت كنساء الخرطوم، كما قال محجوب) وهذه هي بذرة الاستعمار التي تركها مصطفى سعيد في حسنة، التي يحتاج الراوي إليها حتى يقيس على قياسها حياته وما يتناسب مع الشخصية التي فصّلها له المستَعمِر، لا لينتحلها، بل كي يتحرر منها طبعًا.
بموت حسنة ماتت أخِر بذرة للاستعمار؛ لكن يبقى السؤال إذا مات الاستعمار ومات معه ود الريس الذي هو بالتأكيد يرمز للقرية قبل الاستعمار، للسودان بدون مستعمِر، فماذا قد يعني ذلك للراوي؟
تفسير آخر: يمكن أن نقول أنه بموت حسنة ماتت أخِر بذرة للاستعمار؛ لكن يبقى السؤال إذا مات الاستعمار ومات معه ود الريس الذي هو بالتأكيد يرمز للقرية قبل الاستعمار، للسودان بدون مستعمِر، فماذا قد يعني ذلك للراوي؟ خاصةً أن حسنة هي من قتلت ود الريس. يمكن أن نعتبر موت حسنة رمز لموت آثار الاستعمار المدمرة في الراوي، بالتالي تحرر الراوي، بعكس مصطفى سعيد الذي لم تُكتب له النجاة.
وماذا يعني هذا الحدث في بنية الرواية ولماذا نعتبره حدث الاتساق لبنية الرواية نفسها؟ نبرة الرواية نفسها تتغير عن البداية، وتعقيدها يقل، ويخيم جو مأساوي ختامي تستشعر منه أن كل شيء الآن وُضع في مكانه الصحيح. وبالطبع تنتهي الخسارات، أو الرواية والحكي عن الخسارات.
مصطفى سعيد كعنصر فوضى
فوضى مصطفى سعيد، ذكريات مصطفى سعيد أمواج تتلاطم بعضها ببعض لتمتزج موجة واحدة، حالة فوضوية من المهد إلى اللحد -الحالة النفسية الناتجة عن النشأة المضطربة ثم النهاية الغريبة- ثم الوجود غير المستقر. قد تكون لاحظت وجود مصطفى سعيد المتقطع وغير المرتب في الرواية؛ يظهر ويغيب دون انتظام، بطريقة مباغتة يظهر داخل أفكار الراوي. ووجود فيزيائي آخر غير مستقر من مكان إلى آخر:
"وركبت القطار، لم يلوح لي أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد… فكرت قليلًا في البلد الذي خلفته ورائي، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده".
مصطفى سعيد كيان فوضوي مضطرب، موجود هنا وهناك ولا ينتمي هنا أو هناك. وتمامًا كحياته الحرة غير المقيدة بأم أو أب أو مكان، كان رمزًا حرًّا في الرواية غير مقيد بنظام أو ترتيب.
مصطفى سعيد بعكس الراوي والرواية، حدث اتساق وجوده لا يفضي إلى ذلك الهدوء -المأساوي- الذي نحسه عند الراوي بعد ترتب الأحداث ووضوح الرؤية
الحدث الذي بعده تتجلى شخصية مصطفى سعيد بشكل أوضح، ويمكننا بعده وصل النقاط بعضها ببعض حتى تكتمل الصورة التي رسمها الطيب صالح لمصطفى سعيد، هو حدث موته في النيل. مصطفى سعيد بعكس الراوي والرواية، حدث اتساق وجوده لا يفضي إلى ذلك الهدوء -المأساوي- الذي نحسه عند الراوي بعد ترتب الأحداث ووضوح الرؤية، نحس بشبح مصطفى سعيد هائمًا في الجو، فلا تزال ذكراه المتوترة تأتي وتذهب في ذهن الراوي. هناك فوضى في الحدث نفسه حيث أننا لا نستطيع أن نجزم هل هو من قام بإنهاء حياته أم النيل هو من أخذه. ولكن بالنسبة لشخصية معقدة كمصطفى سعيد فحدث بهذا التعقيد شيء مناسب.
كنت أتمنى لو كان حدث الاتساق لشخصية مصطفى هو نفسه حدث الاتساق للراوي والرواية، إذًا كان مقالي هذا عندها ليبدو أكثر اتساقًا. ولكن كما ذكرت فهو يشترك مع حدث اتساق الراوي، أنه هو أيضًا حدث يخسر فيه -حياته- كما يخسر الراوي حياة حسنة -أو يخسر إنقاذ حسنة-.
لقد أخذت شخصية مصطفى سعيد نفسها كعنصر من عناصر الفوضى، بالإضافة للترتيب الكرونولوجي والذاكرة والحالة الغائمة للأحداث (سريالية حدث الاتساق)، ثم نظرت لأثر الفوضى الموجود في الرواية على شخصية مصطفى سعيد، ولعل الفوضى الأساسية في حياة شخصية مصطفى سعيد هي الاستعمار نفسه.
في الحقيقة لم أنتبه لنمط الفوضى المتسقة هذا أول مرة عندما فرغت من قراءة موسم الهجرة إلى الشمال، شهدته واضحًا وضوح الشمس أول مرة في "ضو البيت"، حالة الذهان الجماعي التي تصيب الشخصيات ثم الحلم الذي يختص محيميد ثم الجريمة أخيرًا تفسر كل شيء، تفسر الحلم وتفسر الشخصيات. والكتابة عن هذا النمط أسهل في موسم الهجرة إلى الشمال منها في ضو البيت، ولكن في رأيي فإن ضو البيت لها هالة جليلة حولها؛ من عنوانها وحتى آخر حرفٍ فيها. وبالرغم من أنني أخترت موسم الهجرة إلى الشمال كمقالٍ لي، إلا أن أكثر روايات الطيب صالح قربًا لقلبي هي ضو البيت.
خاتمة
الذاكرة ليست ورقة بيضاء للتدوين، غير أن الهوية هي كل ما يتم تدوينه في سجل الذاكرة. الهوية الاجتماعية تتيح للفرد التعرف على نفسه من خلال المنظومة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وتمكن المجتمع من التعرف عليه -وهذا تعريف غربي للهوية الاجتماعية-. إذن يعرف الفرد ذاته من خلال تعرف غيره عليه (يمكن اعتبار تجربة الراوي مع مصطفى سعيد تجربة مميزة من هذا المنطلق)، غير أن كلتا الشخصيتَين لم تكونا تنتميان تمامًا للنسيج الاجتماعي السوداني، وكذلك بالنسبة للنسيج الاجتماعي الأوروبي.
على هذا الأساس هناك حالة من الفوضى في الحياة الحديثة المُستعمَرة فكريًا وثقافيًا، في المهاجرين وفي اللاجئين، وفي الأفراد الذين لم يغادروا مواطنهم الأصلية قط.
كان مخرج مصطفى سعيد من هذه الفوضى هو الموت، والراوي اكتشف فوضاه للتو والآن هو معلق بين الشمال والجنوب. أتساءل هل سيكتشف البقية فوضاهم أبدًا؟
الكلمات المفتاحية

صدور كتاب "سبع ليالٍ" لخورخي لويس بورخيس بترجمة سودانية
عن دار الموسوعة الصغيرة للنشر، صدر كتاب سبع ليالٍ، للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، بترجمة من الإنجليزية إلى العربية للمترجم السوداني ناصر السيد النور.

الروائية السودانية ليلى أبو العلا تفوز بجائزة "بينتر" البريطانية
نالت الروائية السودانية المقيمة في بريطانيا، ليلى أبو العلا، جائزة "بينتر" للعام 2025، وذلك تكريمًا لإبداعها الأدبي الذي يتناول قضايا الهجرة والإيمان وتجارب المرأة المسلمة في مجتمعات متغيرة، ما يعكس التزامًا واضحًا بـ"نظرة ثابتة لا تتزعزع إلى العالم"، كما جاء في بيان الجائزة.

التيتل
ثلاث ليالٍ متتالية والحلم ذاته يتكرر. يستيقظ الملازم أول سيد أحمد مفزوعًا ومغمومًا منقبض القلب. اليوم استجمع شجاعته العسكرية وحكى لرفيقه، الجندي الدومة فضيل، تفاصيل الحلم:

طقس السودان.. أسبوع مطير في معظم أنحاء البلاد
توقعت الهيئة العامة للأرصاد الجوية، في نشرتها الأسبوعية، تفاوتًا في درجات الحرارة وتوزيع الأمطار خلال الفترة من 15 إلى 21 تموز/يوليو 2025

الأمم المتحدة تحذر: تصاعد القتال والأمطار الغزيرة يُفاقمان الأزمة الإنسانية في السودان
حذّر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا) من تفاقم الأوضاع الإنسانية في السودان نتيجة تصاعد العنف والنزوح المستمر، بالتزامن مع هطول أمطار غزيرة

منظمة: الحرب دمّرت مركز المايستوما في السودان
قالت منظمة صحية إن الحرب دمّرت البنية التحتية لمركز علاج الأورام الفطرية "المايستوما" في السودان، والذي كان يقدّم خدمات حيوية لآلاف الأشخاص في البلاد والعالم بأسره.

غرفة طوارئ بري تصدر توضيحًا حول شحنة مساعدات غذائية توزع في المنطقة
أصدرت غرفة طوارئ منطقة بري، شرقي العاصمة السودانية الخرطوم، توضيحًا بشأن شحنة المساعدات الغذائية التي يجري توزيعها حاليًا في منطقة البراري، مؤكدة أن مسؤولية الشحنة تعود إلى منظمة نداء الوطنية، وليست من اختصاص مناديب الأحياء.