رأي

العيد في السودان... قرابين بشرية وأحلام مؤجلة

5 يونيو 2025
صلاة العيد.jpeg
صلاة العيد (أرشيفية)
عبدالرحيم حمدالنيل
عبدالرحيم حمدالنيلكاتب من السودان

الأعيادُ هي كرنفالات الفرحة الاجتماعية، وهي المتنفس من كتمة اليومي والعادي والمكرر، ورغم أن طقوس العيد غالباً يحفها التكرار، لكنه تكرار مبهج وظل حنين الناس وانتظارهم لهذه الطقوس وتكرارها مصدراً للفرحة؛ لكن كيف هي الأعياد في ظل الحرب؟ الحربُ التي مهمتها تحطيم الإنسان وتفاصيله وعزله عن بيئاته التي تعرِّف هويته وتعرِّفه إلى نفسه.

فجر ١٥ نيسان/أبريل استيقظت الخرطوم على أصوات المدافع الثقيلة والرشاشات الآلية، الحربُ التي لطالما هُدد بها المواطنون باتت واقعاً ثقيلاً، في العشر الأواخر لرمضان، والناس يفكرون في مطلوبات العيد وفرحته؛ جثمت الحرب على صدورهم وحطمت حياتهم، وجعلتهم مشردين، إما نازحين داخل الوطن أو لاجئين خارجه.

لن يستطيع السودانيون هذه المرة الدعاء بـ(تعودُ الأيام)، فهذه أيام للنسيان، للعِبرة والاتعاظ

رائحة الشواء الشهية، التهانئ البهيجة، الزيارات العفوية والبيوت المفتوحة؛ الجلاليب البيضاء الناصعة الجديدة والعمم والشالات الملفوحة على الكتف، الثياب الجديدة؛ لهو الأطفال بالخراف قبل العيد، لعبهم يوم العيد بالألعاب؛ تلك المظاهر الواضحة للفرحة؛ ربما لن تكون هي هي في السودان، في العاصمة الخرطوم تحديداً، التي تحطمت منازل سكانها وتفتك بمن بقي منهم الكوليرا، ويموتون بالمئات جراء تلوُّث المياه وانعدام الكهرباء وتداعيات حرب ١٥ نيسان/أبريل.

في عيد الأضحى هذا في السودان، ستكون هنالك مئات الآلاف من المواطنين في دول اللجوء ومئات الآلاف من المواطنين في دور الإيواء والنزوح؛ ومئات الآلاف من المواطنين محاصرين في الفاشر، ومناطق الاشتباكات في الخوي والدبيبات، والعشرات من المفقودين، والمئات من الشهداء والجرحى؛ والملايين ممن يتهددهم شبح المجاعة في بلادٍ تهطل فيها حبات المانجو الناضجة من الأشجار على رؤوس الناس إذا هبت رياح خفيفة في بعض مناطقها.

هذا العيد، والأعياد التي سبقته خلال سنتي الحرب، يسترجع السودانيون أحزانهم ومراراتهم، يبكون أحبابهم الذين فقدوهم بفعل الحرب، يتحسرون على الأوضاع التي وصلوا إليها بين يوم وضحاه، الموتُ الذي بات رفيقًا لهم، الجوع الذي سكن جارهم وهم الذين عاشوا بين خيرات بلادهم الدافقة، الرصاص الذي ملأ الأفق بدلًا عن السحاب، عربات الموت التي ملأت الشوارع بدلًا عن فوانيس رمضان، وزينة العيد؛ هذا العيد يأتي والموت بالأوبئة والرصاص وسكين القتلة بدلًا عن التضحية بالخراف، وفرحة العيد المعتادة.

لن يستطيع السودانيون هذه المرة الدعاء بـ(تعودُ الأيام)، فهذه أيام للنسيان، للعِبرة والاتعاظ وليس لاستعادتها؛ فالشقاء الذي خيَّم في بلاد الأنهار العذبة والذهب والأراضي الخصبة والموارد الطبيعية؛ لا يبقي خيارًا أمام الناس غير الدعاء بأن تكون حرب ١٥ نيسان/أبريل آخر الحروب في السودان.

في الحرب؛ يكون البقاء على قيد الحياة هو ذاته عيد يستوجب الفرحة، تكون النجاة من طلقة مباشرة أو طائشة، أو دانة أو رائش، هي الكرنفال، لا طقس أكثر أهميةً من الحياة نفسها، وفي الحرب تتعذر الحياة وتتعثر، ويبدو العاديُّ مستحيلًا ونادرًا.

يعودُ عيد الأضحى إلى السودان وقرابين بشرية كثيرة ذُبحت وقدِّمت في طقوس عبثية ومجانية، عيدُ الأضحى الذي أمثولته كيف فدى الله نبيًّه إسماعيل بكبشٍ، يعود إلى السودان ومواطنيه وسكانه جميعًا هم أكباش فداء لمنظومة الجريمة المحلية والدولية، التي همها إضعاف البلدان وناسها، لتسهل التبعية، وتكبُر الحاجة التي يقودون منها البلاد من هناك.

تغرق العاصمة المثلثة في الظلام بسبب مسيَّرات الدعم السريع التي دمرت محطات توليد الطاقة الكهربائية، وينتشر ويموت الناس بالمئات بفعل انتشار وباء الكوليرا الذي وجد أرضًا خصبة ليحصد أرواح الناس، مياه ملوثة، بنية تحتية مدمرة، انهيار القطاع الصحي بالكامل، فقر وخرائب تمتد على مد البصر.

ظل السودان من أكبر البلاد المنتجة للثروة الحيوانية، التي يكون لها الصولة في هذه المواسم، لكنه عالق في حربٍ ضحاياها من البشر لا الحيوانات، فجنوب كردفان التي باتت مدنها وقراها مسرحًا لعمليات عسكرية طاحنة أرواح سكانها تتمتع بثروة حيوانية هائلة تقدر بحوالى (١٠،٨٨٠) مليون رأس من الماشية والضأن والماعز والإبل، فضلًا عن مزارع الدواجن والألبان.

حطمت الحرب السودان، وأرجعته إلى الوراء سنينًا عددًا، فبات الناس يردون الماء من النهر عوضًا عن وصول الماء إلى البيت عبر الحنفيات، ويشعلون الشموع والفوانيس بدلًا عن الكهرباء، ينتظرون طويلًا في صفوف البليلة، طعامًا قليلًا في تكايا الإطعام الجماعية، فلا مؤونة غذائية في المطابخ ولا دخل ولا عمل ولا حياة طبيعية يعيشها الناس.

تِركة الحرب الثقيلة من الخراب تجثم على صدور السودانيين، الذين لا يعرفون ماذا سيجلب لهم الغد، فعندما صدقوا أن وسط السودان قد تحرر والعاصمة باتت خالية من الدعم السريع؛ كانت مسيَّرات الخراب تقصف محطات الكهرباء والمياه ومستودعات النفط لتجعل التحرير حنظلًا في حلوق المواطنين، الذين يتجرعون المرارة لعامين ونيف.

صمد السودانيون خلال سنتين ذاقوا فيهما عذاب الحرب وويلاتها والأوبئة؛ فلا تكاد تسمع لهم نأمة شكوى أو تذمُّر كعادة الشعوب التي مرت عليها الحرب، يحمدون الله بكرةً وعشية وهم يفقدون أحبابهم، منازلهم، مداخيلهم، وممتلكاتهم القليلة، يموتون بالرصاص والدانات، ويعيشون ظروفًا قاهرة تكاد تتعذر فيها الحياة، حيث لا معينات، ولا دعم، ولا إغاثة تصلهم، اغلقت الدول من حولهم حدودها وفرضت شروطاً قاسية لدخولهم إليها، لكن التربية الصوفية التي حظي بها الشعب السوداني إلا قليلًا؛ جعلته يلهج بالحمد والشكر في عز المصاب، كأن الحرب ما مرت على ديارهم.

في هذا العيد والأعياد التي سبقته خلال سنتي الحرب، يسترجع السودانيون أحزانهم ومراراتهم

الصبرُ والأمنيات بانتهاء أمد هذه الحرب وعودة الحياة إلى مجراها الذي عرفه السودانيون هو كل ما يملكونه في هذا العيد؛ الذي تلهج فيه ألسنتهم بالدعاء بإصلاح الحال؛ لكن المؤكد أن السودان الذي عرفه وألفه الناس قد تغيًَّر وإلى الأبد، أما ماذا سيجلب الغد، وإلى ماذا سيتغير السودان، ما هو المصير، كيف يسترد الناس حيواتهم التي اختطفتها الحرب وشروطها القاسية، هذه الأسئلة وغيرها هو ما يجابهه الناس، بالدعاء والأمنيات والأحلام بغدٍ أفضل.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

الكلمات المفتاحية

فعالية لتحالف صمود

هل تحالف "صمود" قابل للإصلاح؟

بما أن تحالف "صمود" يرغب في سماع الآراء المخالفة، يجب عليه الوضع في الاعتبار أن الإصلاح، بالنسبة للقوى المدنية المنخرطة في البحث عن الحكم المدني والديمقراطية، يمكن أن يحدث إذا تحملت "عملية جراحية قاسية"، وقررت العودة إلى نقطة الصفر عند حدود ثورة ديسمبر، ومراجعة التحالفات التي ارتُكبت فيها أخطاء فادحة


image

الإسلاميون في السودان.. من الشعارات إلى واقع الانهيار

لم ينتظر الإسلاميون كثيرًا عقب سقوط نظامهم، فانخرطوا في معارضة السلطة الانتقالية التي ورثت كثيرًا من التحديات على عدة أصعدة؛ أبرزها تعدد الجيوش، والانهيار الاقتصادي، والديون الهائلة التي ظلت تتراكم، وملف العدالة


آثار دمار في الخرطوم.jpg

السودان.. هل يذهب نحو السيناريو الليبي؟

يعتقد كثيرٌ من السودانيين أن مآلات هذه الحرب ستشبه كثيرًا السيناريو الليبي، وأننا موعودون بنظامين يقسِّمان السودان شرقًا وغربًا؛ تكون فيه القوات المسلحة تحكم الجزء الشرقي، الذي يضم "الإقليم الشرقي والعاصمة الخرطوم ووسط السودان وبعضًا من إقليم كردفان"، بينما تتحكم مليشيا الدعم السريع في غرب السودان (ولايات دارفور وبعض من إقليم كردفان)، ويحدث وقف دائم لإطلاق النار، وتستمر الحياة هكذا.


عمر البشير

30 يونيو.. ذكرى انقلاب أطاح بالسودان إلى قاع أزماته

هذا الانقلاب لم يكن مجرد حدث سياسي عابر، بل كان بداية لعقود من الانحدار الشامل الذي طال جميع مناحي الحياة في السودان. فطوال ثلاثين عامًا، تربع هذا النظام على كرسي الحكم، وأحال البلاد إلى أنقاض دولة.

الطقس 2.jpg
أخبار

13 إصابة بينها حالتا وفاة بضربات الشمس بولاية البحر الأحمر

كشفت اللجنة الفنية للطوارئ الصحية بوزارة الصحة ولاية البحر الأحمر، عن تسجيل 13 حالة إصابة بضربات الشمس، بينها حالتا وفاة بولاية البحر الأحمر.

سيول في السودان
أخبار

سيول مفاجئة تتسبب بنزوح عشرات الأسر في شمال دارفور

أعلنت مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة أن السيول الناجمة عن أمطار غزيرة اجتاحت بلدة دار السلام في ولاية شمال دارفور خلال يومي 14 و15 تموز/يوليو الجاري


الدولار-الامريكي-1280x720.jpg
اقتصاد

زيادة جديدة في الدولار الجمركي تحدث سخطًا في أوساط المستوردين بالسودان

قال متعاملون في التخليص الجمركي، إن الحكومة نفذت زيادة جديدة في التعرفة الجمركية الخاصة بعمليات الاستيراد، برفع القيمة من ألفي جنيه إلى 2400 جنيه اليوم الأربعاء.

جانب-من-لقاء-الهلال-والمريخ-أرشيفية.jpg
أخبار

الهلال والمريخ يعتذران عن خوض نهائي كأس السودان

أعلن ناديا الهلال والمريخ في بيان مشترك، أمس الثلاثاء، اعتذارهما عن خوض مباراة نهائي كأس السودان، المقررة في 26 تموز/ يوليو الجاري على ملعب بورتسودان، مبررين ذلك بجملة من التحديات التي رافقت مشاركتهما في البطولات خلال فترة الحرب.

الأكثر قراءة

1
أخبار

احتواء أزمة بين الجيش والقوة المشتركة في سوق صابرين بأم درمان


2
أخبار

النيابة بالشمالية تكشف تفاصيل الهجوم المسلح على قسم شرطة في دنقلا العجوز


3
أخبار

مجلس السيادة يُشكل لجنة عليا لتهيئة الخرطوم وعودة المواطنين


4
أخبار

الحكومة تحدد مواعيد استبدال العملة في ولاية الجزيرة


5
أخبار

الجيش والمشتركة يتمكنان من التصدي لهجوم على الفاشر