رأي

السودان بين الخراب والانقسام: كيف نتفادى المصير الأسوأ؟

18 مايو 2025
المستنفرون - الحرب - مسلحون.jpg
(تعبيرية)
طلال نادر
طلال نادركاتب وصحافي من السودان

يخوض السودان اليوم واحدة من أعقد وأقسى مراحله منذ نشأته الحديثة. ليست الحرب وحدها هي التي تفتك بالوطن، بل ما هو أخطر: النزعة المتزايدة نحو الانقسام الفعلي، لا الجغرافي فقط، بل السياسي والاجتماعي وحتى الوجداني. فالبلد الذي حلم أبناؤه منذ الاستقلال ببنائه وطنًا يسع الجميع، بات مهددًا بأن يتحول إلى جزر معزولة تتنازعها المليشيات والطموحات الإقليمية، بينما المواطن العادي يتآكل تحت وطأة الجوع، والنزوح، واليأس.

مع كل يوم يمر، تتسع الهوة بين المركز والأطراف، بين القوى المتصارعة على الأرض، وبين الرؤية الوطنية الجامعة التي يجب أن تكون أساس أي مشروع سلام أو بناء قادم. إعلان قوات الدعم السريع تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرتها تحت مسمى "تحالف السودان التأسيسي" يمثل واحدًا من أخطر المؤشرات على أن الانقسام السياسي قد يجد له طريقًا إلى انقسام إداري وفعلي على الأرض، ما لم يتم تدارك الأمر بعقلانية وشجاعة ومسؤولية وطنية.

اعتمد النظام القديم طويلًا على سياسة تعدد الجيوش والميليشيات، لإخماد الأصوات المتمردة وإدارة الأزمات بالمراوغة لا بالحكمة، فكان أن أنشأ بذور الخراب الذي يحصده السودان اليوم

 وما يزيد من قتامة المشهد أن طرفي الصراع، ومعهم حلفاؤهم المختلفون على الأرض، قد تورطوا في انتهاكات شنيعة ضد المدنيين، مما يعكس بوضوح أن الأزمة لم تعد مجرد خلاف على السلطة، بل امتدادًا لفشل تاريخي في بناء دولة عادلة قادرة على احتكار العنف المشروع. فقد اعتمد النظام القديم طويلًا على سياسة تعدد الجيوش والميليشيات، لإخماد الأصوات المتمردة وإدارة الأزمات بالمراوغة لا بالحكمة، فكان أن أنشأ بذور الخراب الذي يحصده السودان اليوم. المفارقة الأشد مرارة أن حلفاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم، وأعداء الأمس تحولوا إلى شركاء الحاضر، في مشهد يفتقر لأي بوصلة وطنية، ويكشف إلى أي حد انفرط العقد وانطفأت الرؤية.

في المقابل، تظهر الحكومة الانتقالية، التي تتخذ من بورتسودان مقرًا مؤقتًا، عاجزة عن بسط سلطتها حتى على المناطق التي من المفترض أنها خاضعة لها. فلا سيادة فعلية، ولا مؤسسات خدماتية حقيقية، ولا مشروع واضح لاستعادة الدولة. وسط هذا المشهد، يتزايد حضور قوى محلية وجهوية مسلحة، تستفيد من حالة الفراغ والفوضى لتعزيز مواقعها، ما يجعل فكرة تقسيم السودان إلى مناطق نفوذ متصارعة واقعًا محتملًا إذا استمر غياب الحل السياسي الشامل.

يمر المجتمع السوداني بتحولات خطيرة أقل ظهورًا لكنها لا تقل فتكًا: تفكك النسيج الاجتماعي، تصاعد النزعات الجهوية، تآكل الثقة بين المكونات المختلفة، وتضخم الإحساس بالخذلان والمرارة لدى قطاعات واسعة من الشعب

بعيدًا عن الصراع المسلح، يمر المجتمع السوداني بتحولات خطيرة أقل ظهورًا لكنها لا تقل فتكًا: تفكك النسيج الاجتماعي، تصاعد النزعات الجهوية، تآكل الثقة بين المكونات المختلفة، وتضخم الإحساس بالخذلان والمرارة لدى قطاعات واسعة من الشعب. النزاعات القبلية التي تندلع في بقاع البلاد المختلفة٫ لم تعد مجرد اشتباكات تقليدية، بل باتت تحمل شحنات سياسية واضحة، تُغذيها الحرب وتضاعف من تأثيرها. هذه النزاعات، إذا لم يتم احتواؤها ضمن رؤية وطنية شاملة، قد تصبح أساسًا لصراعات انفصالية أوسع تهدد بقاء السودان ككيان موحد.

الأرقام الصادرة عن منظمات الإغاثة ترسم صورة قاتمة للمستقبل القريب. تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 25 مليون سوداني بحاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية، وأن نصف السكان مهددون بانعدام الأمن الغذائي خلال الأشهر القادمة. في ظل هذه الكارثة الإنسانية، تبدو السياسة وكأنها بعيدة كل البعد عن هموم الناس، مشغولة بلعبة الكراسي والتحالفات المؤقتة، عاجزة عن تقديم أي مشروع حقيقي للخروج من الهاوية.

إن الطريق إلى تفادي المصير الأسوأ يبدأ أولًا بالاعتراف العلني بحجم الانهيار. لا يمكن علاج المرض بدون تشخيصه بشجاعة. السودان ليس فقط في أزمة حرب، بل في أزمة مشروع وطني ضائع. وكل محاولة للالتفاف على هذه الحقيقة، أو تأجيل مواجهتها، لن تؤدي إلا إلى مزيد من التدهور والتفتت.

لا بد من مشروع سياسي جديد، لا يقوم على فكرة المحاصصة بين الأطراف المتحاربة، بل على أساس عقد اجتماعي جديد يضع كرامة الإنسان السوداني في قلب أولوياته. عقد يعترف بالتعددية، ويؤسس لدولة مدنية حقيقية، تحترم الحريات وتوزع الثروة والسلطة بعدل، وتمنح كل السودانيين إحساسًا حقيقيًا بالشراكة والانتماء.

الرهان اليوم لم يعد فقط على وقف إطلاق النار، رغم أنه ضرورة ملحة. الرهان الحقيقي هو على بناء أفق سياسي جديد لا يعيد إنتاج الأزمة، ولا يتركها تتعفن تحت الرماد بانتظار انفجارات أكبر وأشد قسوة

الرهان اليوم لم يعد فقط على وقف إطلاق النار، رغم أنه ضرورة ملحة. الرهان الحقيقي هو على بناء أفق سياسي جديد لا يعيد إنتاج الأزمة، ولا يتركها تتعفن تحت الرماد بانتظار انفجارات أكبر وأشد قسوة. هذا الأفق يحتاج إلى قوى سياسية جديدة، إلى إرادات وطنية نظيفة، إلى شباب لم يتلوث بفساد النخب، إلى قيادات تحمل هم الوطن بصدق لا بمكر، وترى في السودان مشروع حياة لا مشروع سلطة.

في النهاية، يبقى السؤال معلقًا فوق رؤوس الجميع: هل نملك الشجاعة لننقذ وطنًا يوشك أن يتلاشى بين أيدينا؟ هل نستطيع أن نتجاوز الحسابات الضيقة، ونفتح صفحة جديدة تقوم على المصارحة والمصالحة والعدل؟ أم أن مصير السودان سيكون نسخة مكررة من حرب الإخوة الأعداء التي ابتلعت دولًا أخرى من حولنا؟ السودان، بما تبقى فيه من دماء وذكريات وآمال مبعثرة، يستحق فرصة أخيرة. فرصة لا تمنحها المؤتمرات الدولية ولا تعطيها اتفاقيات السلام الورقية، بل تصنعها إرادة أبنائه حين يؤمنون أن بوسعهم، رغم كل الجراح، أن يعيدوا بناء وطنهم حجرًا حجرًا، وقلبًا قلبًا.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

الكلمات المفتاحية

بابنوسة

بابنوسة: الحرب داخل الحرب

استوقفني خلال اليومين الماضيين عدد كبير من مقاطع الفيديو القصيرة المتداولة، عن المواجهات المسلحة العنيفة الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في مدينة بابنوسة بولاية غرب كردفان.


د. هاجر ابشر

  هاجر.. موسيقية سودانية تدعو لإيقاف الحرب كل يوم منذ عامين

منذ أكثر من عامين، لا تتعب الدكتورة هاجر أبشر عميدة كلية الدراسات الموسيقية والمسرحية بجامعة شرق كردفان، من كتابة منشور واحد على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي الشهير "فيسبوك"، تكرره كل صباح، لمئات الأيام، المنشور يحتوي جملة من كلمتين فقط : "أوقفوا الحرب".


العاصمة الخرطوم.jpg

يا جمال النيل والخرطوم بالليل... مشاهد شخصية للعاصمة السودانية

حين أفكِّر بالخرطوم الآن؛ أبصرها بعين خيالي وأنا في البعيد، الخرطوم كما أحببتها ودسستها في قلبي، تبقى هي هي، موئلًا للمصادفات الجميلة، كما عبَّر عاطف خيري عن مدينةٍ أخرى لا تقل بأسًا عن الخرطوم.


سوداني في الزي التقليدي يحمل علم السودان.jpg

السودان: الحل بالداخل.. لا بالهندسة الخارجية

ها نحن الآن، ومع أول تحرك لإدارة الرئيس ترامب بعد 5 أشهر من توليها السلطة، تعود الولايات المتحدة الأمريكية -بمشاركة السعودية والإمارات ومصر مع استبعاد بريطانيا هذه المرة- لإحياء ما يُعرف بـ"المجموعة الرباعية" في مسعى جديد لتحريك المياه الراكدة ووقف الحرب في السودان

آثار القصف بمسشتفى المجلد
أخبار

شبكة أطباء السودان: مقتل طبيبة في قصف على مستشفى المجلد بغرب كردفان

قُتلت طبيبة سودانية تُدعى مودة رحمة الله، جراء قصف نفذته القوات المسلحة السودانية على مستشفى المجلد بولاية غرب كردفان، استهدف قوات تابعة للدعم السريع كانت متمركزة داخل المستشفى، بحسب ما أعلنت شبكة أطباء السودان.

وزارة الخارجية السودانية.png
أخبار

الخارجية السودانية: نعتزم تقييم العلاقات مع الدول التي لا تدعم الشرعية

جددت وزارة الخارجية السودانية الاتهامات للتحالف المدني لقوى الثورة "صمود" بالعمل ضمن الذراع السياسي لقوات الدعم السريع


الجيش 2.jpg
أخبار

الجيش يدمر مركبات قتالية قُرب بابنوسة والدعم السريع يتوعد بـ"بركان الغضب"

قال مرصد "كردفان" الأحد 22 حزيران/يونيو 2025 إن مسيرات تابعة للجيش دمرت 13 عربة قتالية ومدفع 120 لقوات الدعم السريع حول مدينة بابنوسة بولاية غرب كردفان ضمن عمليات عسكرية جارية في المنطقة حاليًا.

مني أركو مناوي.jpg
أخبار

حرب التسريبات.. حاكم إقليم دارفور يهدد باللجوء إلى الإعلام

نشر حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي ورئيس حركة تحرير السودان المسلحة المتحالفة مع الجيش في الحرب ضد قوات الدعم السريع، تغريدة على منصة (إكس) الأحد 22 حزيران/يونيو 2025 قائلًا، إن من يسربون محاضر الاجتماعات ويزورون الحقائق يفعلون ذلك لاغتيال الشخصيات.

الأكثر قراءة

1
أخبار

الدعم السريع تتهم الجيش بقصف مستشفى المجلد ومقتل 34 مدنيًا


2
أخبار

الخارجية السودانية تحذّر من تداعيات العدوان الأميركي على إيران


3
أخبار

الشرطة لـ"الترا سودان": اكتمال كافة الترتيبات لتأمين امتحانات الشهادة السودانية


4
مجتمع

الرصاص الطائش.. أجواء الحرب تلاحق المدن الآمنة في السودان


5
أخبار

الصحة السودانية تقترب من الانتقال إلى مقرها في العاصمة الخرطوم