السودان: الحل بالداخل.. لا بالهندسة الخارجية
9 يونيو 2025
بعد أكثر من عامين في حرب السودان المنسية، لم نلتمس أي تعاطٍ جادٍ وحقيقيٍ من المجتمع الدولي رغم حجم المعاناة التي يعانيها السودانيون. تعددت المنابر والمبادرات دون أي تأثير فعلي على مجريات الحرب أو تحقيق اختراقٍ يُفضي إلى بداية حلٍ للأزمة. وها نحن الآن، ومع أول تحرك لإدارة الرئيس ترامب بعد 5 أشهر من توليها السلطة، تعود الولايات المتحدة الأمريكية -بمشاركة السعودية والإمارات ومصر مع استبعاد بريطانيا هذه المرة- لإحياء ما يُعرف بـ"المجموعة الرباعية" في مسعى جديد لتحريك المياه الراكدة ووقف الحرب في السودان. لكن هذه المقاربة تتجاهل حقيقةً راسخةً هي أنه "لا يمكن حل أزمة الدولة السودانية من الخارج".
الدولة السودانية ليست دولة منهارة، كما يروّج بعض المحللين، بل هي دولة واجهت واحدة من أخطر محاولات التفكيك في تاريخها الحديث
فالدولة السودانية ليست دولة منهارة، كما يروّج بعض المحللين، بل هي دولة واجهت واحدة من أخطر محاولات التفكيك في تاريخها الحديث، واستطاعت، رغم حجم التآمر الإقليمي والدولي المحيط بها، أن تحافظ على تماسك مؤسساتها إلى حدٍّ ما. لقد امتصت الصدمة الأولى للحرب، وتجاوزت مرحلة الانهيار الكامل، وهي اليوم تخوض حربًا مفتوحة ضد مشروع إقليمي يسعى إلى تفتيت السودان وتحويله إلى مناطق نفوذ وساحات خاضعة للمليشيات.
وفي اعتقادي، فإن قوات الدعم السريع ليست مجرد تمرد داخلي، بل تمثل أداة عسكرية لتنفيذ هذا المشروع، المموّل والمسلّح والمدار إقليميًا. والمفارقة أن الإمارات، التي تُعدّ الحاضر الأبرز في كل مبادرة خارجية لحل الأزمة، ليست طرفًا محايدًا، بل طرفًا مباشرًا ورئيسيًا في الحرب. فقد أثبتت تقارير مستقلة وموثوقة، من بينها مذكرة السفير الأوروبي إلى السودان، أن أبوظبي قدّمت دعمًا عسكريًا نوعيًا لقوات الدعم السريع، شمل طائرات مسيّرة، ومدافع، وشبكات تمويل، وسماسرة سلاح.
التركيز فقط على دور الإمارات، رغم أهميته، يُخفي حقيقة مؤلمة: نحن نعيش اليوم نتائج فشل داخلي عميق، هيكلي ومزمن، لا يمكن تجاوزه إلا بإعادة بناء الدولة من الداخل
ومع ذلك، فإن التركيز فقط على دور الإمارات، رغم أهميته، يُخفي حقيقة مؤلمة: نحن نعيش اليوم نتائج فشل داخلي عميق، هيكلي ومزمن، لا يمكن تجاوزه إلا بإعادة بناء الدولة من الداخل. نعم، هناك خلل بنيوي كبير في الدولة السودانية، لكن الحرب الحالية أثبتت أن هذا الخلل ليس قدرًا محتومًا. فقد ظهرت مؤشرات على أن الجيش السوداني، رغم كل ما يواجهه، يتطور كمؤسسة وطنية حديثة قادرة على أداء مهامها.
والأهم من ذلك، أن التجربة المريرة التي خاضها العسكريون في الحكم، منذ انقلاب عبود عام 1958 وحتى اليوم، وعلى رأسهم الفريق عبد الفتاح البرهان، أثبتت أن العسكر لا ينبغي أن يكونوا على رأس الدولة، ولا أن يمارسوا العمل السياسي. وإذا كُتب للسودان الخروج من هذه الحرب متماسكًا، فإن بناء الدولة المدنية يجب أن يكون أولوية وطنية، تحقيقًا لشعار ثورة ديسمبر: "العسكر للثكنات والجنجويد ينحل".
لكن حتى هذا الشعار لا يكفي وحده، ولزامًا علينا أن نواجه الحقيقة الأصعب: الأزمة الأمنية في السودان لا تنحصر في الدعم السريع وحده. فهناك مليشيات قبلية، وفصائل مسلحة، وتكوينات جهوية لا تخضع للدولة، بل تنافسها. ولا يمكن بناء سلام دائم ما لم يتم حلّ جميع هذه المليشيات وتجريدها من السلاح، وإعادة هيكلة القطاع الأمني على أسس وطنية. وهذا هو جوهر غياب "نظرية الأمن القومي السوداني"، الذي جعل من السودان ساحة مفتوحة أمام كل من يملك المال والسلاح والتكنولوجيا.
طالما أن بيئة الحرب قائمة، فإن الخارج سيبقى قادرًا على استثمارها لصالح أجنداته. وبالتالي، فإن مواجهة التدخلات الخارجية –مثل الدور الإماراتي في دعم قوات الدعم السريع– لا يمكن أن تنجح ما لم نبدأ أولًا بإصلاح الداخل
وطالما أن بيئة الحرب قائمة، فإن الخارج سيبقى قادرًا على استثمارها لصالح أجنداته. وبالتالي، فإن مواجهة التدخلات الخارجية –مثل الدور الإماراتي في دعم قوات الدعم السريع– لا يمكن أن تنجح ما لم نبدأ أولًا بإصلاح الداخل. نعم، من الضروري فضح الدور الإماراتي ومقاومته سياسيًا وعسكريًا، لكن لا بد أيضًا من بناء جبهة داخلية موحدة قادرة على التصدي لأي تدخل خارجي، سواء من الإمارات أو من غيرها.
وبالحديث عن الأدوار الإقليمية، لا بد من التمييز بين من يتعامل مع السودان كدولة ذات سيادة ومؤسسات، ومن يتعامل معه كفراغ قابل للتفكيك والاستثمار. في هذا السياق، يبرز الدور المصري باعتباره داعمًا لمؤسسات الدولة السودانية، وفي مقدمتها القوات المسلحة، التي ينظر إليها في القاهرة بوصفها خط الدفاع الأخير ضد انهيار الدولة السودانية. فالدعم المصري للجيش لا يمكن فصله عن المخاوف العميقة لدى صانع القرار المصري من أن يؤدي تفكك السودان إلى تمدد الفوضى عبر الحدود، وانكشاف الأمن القومي المصري في عمقه الجنوبي. ولهذا، ترى القاهرة في وحدة السودان واستقراره مصلحة استراتيجية، وليس مجرد اصطفاف سياسي.
لكن هذا الدعم، رغم ما يطرحه من إشكالات سياسية، يختلف نوعًا ومقصدًا عن الدعم الإماراتي، الذي يُوجَّه لقوات الدعم السريع بشكل مباشر، متجاوزًا كل القنوات السيادية، في تحدٍّ واضح لبنية الدولة السودانية نفسها. فبينما تتعامل مصر مع الجيش السوداني باعتباره مؤسسة شرعية ضمن كيان الدولة، ترى أبوظبي في الدعم السريع أداة لتنفيذ مشروع نفوذ يتجاوز الدولة، ويعمل على إعادة تشكيلها بما يتوافق مع مصالحها الأمنية والاقتصادية الخاصة.
وفي هذا الإطار، فإن تشكيل حكومة جديدة في السودان بقيادة الدكتور كامل إدريس قد يمثل فرصة مهمة للقيام بدور دبلوماسي فعّال، سواء في كبح التدخلات أو في إعادة صياغة علاقات السودان الخارجية على أسس السيادة والمصلحة الوطنية.
تجربة السودان خلال هذه الحرب أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن التعويل على الحلول الخارجية، أو القبول بالوصاية الإقليمية والدولية، لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة وتمديد أمد الصراع.
وفي المحصلة، فإن تجربة السودان خلال هذه الحرب أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن التعويل على الحلول الخارجية، أو القبول بالوصاية الإقليمية والدولية، لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة وتمديد أمد الصراع. لذلك، فإن المطلوب اليوم هو انبثاق مشروع وطني جامع، يتجاوز المحاصصات الحزبية السلطوية، والولاءات الجهوية، ويرتكز على أسس دولة المواطنة والعدالة والشفافية.
مشروع يُعيد تعريف علاقات السودان الخارجية على أساس الندية والمصالح المتبادلة، ويرفض تحويل البلاد إلى ساحة لتصفية حسابات الآخرين أو الاستثمار في معاناة شعبه. مشروع وطني تأسيسي يحقق قطيعة شاملة مع المليشيات بكل أشكالها، ويؤمن بأن بناء جيش قومي محترف، ومؤسسات مدنية ديمقراطية، هو السبيل الوحيد لضمان الاستقرار والسيادة.
ختامًا، رسالتي إلى القوى المدنية والسياسية أن يستعيدوا قرارهم الوطني من أيادي الوصاية، وأن يُنجزوا توافقًا سياسيًا حقيقيًا يؤسس لمرحلة انتقالية جديدة، تبدأ بعدالة انتقالية شاملة، وتُفضي إلى دولة مدنية تحترم كرامة الإنسان، وتُحقق شعارات ثورة ديسمبر المجيدة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
الكلمات المفتاحية

هل تحالف "صمود" قابل للإصلاح؟
بما أن تحالف "صمود" يرغب في سماع الآراء المخالفة، يجب عليه الوضع في الاعتبار أن الإصلاح، بالنسبة للقوى المدنية المنخرطة في البحث عن الحكم المدني والديمقراطية، يمكن أن يحدث إذا تحملت "عملية جراحية قاسية"، وقررت العودة إلى نقطة الصفر عند حدود ثورة ديسمبر، ومراجعة التحالفات التي ارتُكبت فيها أخطاء فادحة

الإسلاميون في السودان.. من الشعارات إلى واقع الانهيار
لم ينتظر الإسلاميون كثيرًا عقب سقوط نظامهم، فانخرطوا في معارضة السلطة الانتقالية التي ورثت كثيرًا من التحديات على عدة أصعدة؛ أبرزها تعدد الجيوش، والانهيار الاقتصادي، والديون الهائلة التي ظلت تتراكم، وملف العدالة

السودان.. هل يذهب نحو السيناريو الليبي؟
يعتقد كثيرٌ من السودانيين أن مآلات هذه الحرب ستشبه كثيرًا السيناريو الليبي، وأننا موعودون بنظامين يقسِّمان السودان شرقًا وغربًا؛ تكون فيه القوات المسلحة تحكم الجزء الشرقي، الذي يضم "الإقليم الشرقي والعاصمة الخرطوم ووسط السودان وبعضًا من إقليم كردفان"، بينما تتحكم مليشيا الدعم السريع في غرب السودان (ولايات دارفور وبعض من إقليم كردفان)، ويحدث وقف دائم لإطلاق النار، وتستمر الحياة هكذا.

13 إصابة بينها حالتا وفاة بضربات الشمس بولاية البحر الأحمر
كشفت اللجنة الفنية للطوارئ الصحية بوزارة الصحة ولاية البحر الأحمر، عن تسجيل 13 حالة إصابة بضربات الشمس، بينها حالتا وفاة بولاية البحر الأحمر.

سيول مفاجئة تتسبب بنزوح عشرات الأسر في شمال دارفور
أعلنت مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة أن السيول الناجمة عن أمطار غزيرة اجتاحت بلدة دار السلام في ولاية شمال دارفور خلال يومي 14 و15 تموز/يوليو الجاري

زيادة جديدة في الدولار الجمركي تحدث سخطًا في أوساط المستوردين بالسودان
قال متعاملون في التخليص الجمركي، إن الحكومة نفذت زيادة جديدة في التعرفة الجمركية الخاصة بعمليات الاستيراد، برفع القيمة من ألفي جنيه إلى 2400 جنيه اليوم الأربعاء.

الهلال والمريخ يعتذران عن خوض نهائي كأس السودان
أعلن ناديا الهلال والمريخ في بيان مشترك، أمس الثلاثاء، اعتذارهما عن خوض مباراة نهائي كأس السودان، المقررة في 26 تموز/ يوليو الجاري على ملعب بورتسودان، مبررين ذلك بجملة من التحديات التي رافقت مشاركتهما في البطولات خلال فترة الحرب.