رأي

الدينُقراطية!

29 فبراير 2016
GettyImages-80279172.jpg
مسجد الختمية في قاعدة جبل تاكا في السودان (Getty)
محفوظ بشرى
محفوظ بشرىكاتب وصحفي من السودان

هذه ليست غلطة مطبعية، فهناك حقًا "دينقراطية" تحكم اليوم بعض الدول، وتعشعش في أذهان جماعات تسعى إلى تطبيقها في دول أخرى. وإن كانت الديمقراطية تُعرف بحكم الشعب للشعب بالشعب، فإن الدينقراطية، بوصفها تهجينًا غير متقن بين الدين والديمقراطية، يمكن أن تُعرف بـ"حكم الله للشعب عن طريق من يقولون إنه اختارهم لهذه المهمة".

تنتشر ظاهرة الدينقراطية بين جماعات الإسلام السياسي الساعية إلى نموذج "عصري" للحكم الديني

من إيران إلى السودان، ومن مصر "الإخوانية" إلى غامبيا، تنتشر الدينقراطية بدرجات متفاوتة في بلداننا. كما تنتشر بين جماعات الإسلام السياسي الساعية إلى نموذج "عصري" للحكم الديني، وأيضًا بين أحزاب تلحق بأسمائها صفة "الديمقراطي" وهي تطرح برامج "إسلامية".

اقرأ/ي أيضًا: العنصرية في السودان.. قبائل بهويات تائهة

والدينقراطية، بالنسبة إلى تلك الجماعات، تخرج كونها حالة فقط، لتصبح مفهومًا "Concept"، يتصلّد كلما اقتنعت باستحالة تطبيق نموذج القرن السابع الميلادي، فتتحول إلى تبني هجين خيالي توسلًا لتطبيق منتجات عصر الأنوار لكن بأساس ديني يُفترض فيه "الأصالة".

ولأنها بذرة في الوعي الجمعي لشعوب ممزقة بين ما تريده وتراه في الخارج، وبين نوستالجيا إلى إرث حقق لها سيادة مفترضة في وقت ما؛ لذا وجدت الدعوة الدينقراطية، وتجد، مزيدًا من الأنصار كلما طُرحت.

وتمثل جماعة الإخوان المسلمين وبناتها من الجماعات، حالة دينقراطية نموذجية، ظهرت بأوضح ما يكون بعد سقوط مبارك وحتى سقوط مرسي، في استخدامها لأدوات العصر وبعض مفاهيمه، لبناء واقع خارج هذا العصر وإحياء مفاهيم مغايرة، هذا طبعًا إن افترضنا صدق شعاراتها.

أيضًا، تمثل الدولة السودانية الماثلة، حالة دينقراطية فريدة، فهي تكونت بانقلاب على "الديمقراطية" في العام 1989، ورفعت في بداياتها شعارات العداء للغرب والحرب عليه، وسعت بإيمان كامل في بواكيرها إلى تطبيق "شرع الله" وتحويل السودان إلى دولة إسلامية، فألغت الأحزاب، والانتخابات، وحلّت النقابات والتجمعات، وضيقت على الغناء "غير الإسلامي!" والفنون، وبثت دعاية دينية كثيفة حد أن تلمسها بيدك.

لكن حركة التاريخ جرفت كل هذه الأوهام، ليصبح لزامًا على دولة الإخوان السودانيين اكتساب شرعية بالطرق الديمقراطية التي لا يؤمنون بها إلا كوسيلة للوصول. هنا اكتشفوا بطريقة ما، معادلة "الدينقراطية" كمخرج. فصارت هناك انتخابات اسمية، وأحزاب مصنوعة في مطابخ الدولة وتعارض وفق خطط الدولة، وصار هناك رئيس منتخب فائز دومًا طوال 27 عامًا بشفافية دينقراطية تامة.

من صفات الدينقراطية أن واجب الحكام هو "إدخال الناس الجنة"، وليس خدمتهم وتنظيم شؤونهم

قد يكون السودانيون اقتبسوا الفكرة من الدينقراطية الفارسية الأقدم بحكم العلاقة الوثيقة بين البلدين حتى وقت قريب. مع عدم إهمال أن بذور الفكرة جاءت من الجماعة الأم مع ما جاء من أفكار، وأنضجها صدام الواقع الذي واجهته الحركة الإسلامية السودانية وهي تخوض في الحاضر بمجاديف القرون القديمة، حتى أتى أوان قطافها فكانت "جمهورية السودان" التي يُحكم فيها كل شيء "ديمقراطيًا وفق الدين"، أي دينقراطيًا.

اقرأ/ي أيضًا: السودان.. هي هجرة أخرى

تطمح الدينقراطيات، العربية بالذات، إلى تطبيق نموذج تركيا الأردوغاني المتوهَّم، وليس الواقعي. فالذهن الدينقراطي، يُسقط عمدًا، تفاصيل في النموذج التركي تشوِّه الصورة المبتغاة والمدعو إليها، أعني تفاصيل مثل العلاقة مع أوروبا، وحلف الناتو، والأهم العلاقة بالكيان الصهيوني.

ومن صفات الدينقراطية، أن واجب الحكام هو "إدخال الناس الجنة"، و"تزكيتهم" بحملهم على "حكم الله"، وليس خدمتهم وتنظيم شؤونهم، مثلما كانت تقول دعاياتهم أيام الانتخابات، أو بعد انقلاباتهم و"ثوراتهم" في بواكيرها.

في الدينقراطية، الخطأ دائما ليس من الحاكم، بل من المحكومين الذين لم يستوعبوا التطبيق الصحيح، وأيّ مصاعب ترد مباشرة إلى الابتلاء من الله وليس إلى سياساته، فهو -الرئيس المنتخب- فوق النقد، مثله مثل أي زعيم أو قائد أو ملك. فهو يلبس عباءة "الخليفة" وينتظر من الرعية السمع والطاعة، دينقراطيًا.

كذلك، في الدينقراطية، تتذكر الحكومة بؤس الشعب، فقط حين الحاجة إليه لفك الخناق عنها، مثلما انتبهت حكومة السودان فجأة، في الشهور الماضية، إلى أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة عليها منذ التسعينيات، مؤذية للشعب المسكين! ومن ثم بنت خطابها الرسمي، غير الذكي، على أنها المدافع عن الشعب ورفاهيته.

كما نرى، فإن الدينقراطية ليست شيئًا جديدًا، فأكثرنا خبرها بطريقة أو بأخرى، ورآها رأي العين وهي تسعى بين الناس.

إذن، ما الحل للنجاة من الدينقراطيات التي فرّخت بعد الربيع العربي المغدور، وتنتشر الآن أعراضها على كامل الجسد المثخن، لشعوب لا تزال تنتظر معجزات الله لتحيا؟

اقرأ/ي أيضًا:

أكتوبر 1964.. حين فشلت ثورة السودان

أقباط السودان.. تعايش حذر

الكلمات المفتاحية

نازحو الفاشر في الدبة

نزوح الفاشر إلى الدبة.. حين تضغط الجغرافيا وتنكسر السياسة

الآثار الكارثية لما وقع في الفاشر لن تمحي قريبًا. الآلاف قتلوا وشردوا وانتهكت أعراضهم في واحدة من أسوأ مشاهد الحرب الدائرة في السودان، بل هي مأساة مكتملة،


أبو لولو

"أبو لولو" كمرآة لعنف الدعم السريع

تجاوز ظهور المجرم المدعو "أبو لولو" في مقاطع الفيديو الأخيرة من الفاشر كونه مجرد واقعة دموية جديدة في سجل الحرب السودانية، الى كونه حدثًا إعلاميًا مُحمَّلًا بالرموز، استُخدم - بوعي أو دون وعي - لصرف الأنظار عن المنهجية الأعمق للعنف داخل الدعم السريع.


مدينة الفاشر تحت القصف

مجزرة الفاشر.. حقيقة الحرب وجوهرها

سيتذكر السودانيون في المستقبل أن قوةً شبه نظامية تمردت على الدولة، وجمعت أشتاتًا من القتلة واللصوص من السجون والمليشيات، استأجرتها إحدى الدول لتحطيم السودان ونهبه وتجيير موارده لها. سيتذكرون تلك الليلة التي سقطت فيها أكثر المدن مقاومةً للغزو، وكيف أقاموا فيها مجزرةً لا أول لدمويتها ولا آخر لوحشيتها. وستكون هذه الذكرى هي الحصانة التي ستحمي السودانيين والدولة السودانية من تكرار أخطاء الماضي، بكل…


Kadogli.jpg

هل ما زال في السودان متسع للعقلاء؟

قبل أيام، اهتزت ولاية شمال كردفان على وقع حادثة مأساوية باغتيال الناظر سليمان جابر جمعة، زعيم قبيلة المجانين، إلى جانب واحد وعشرين من أعيان وشباب منطقته في المزروب بسقوط طائرة مسيرة. وتبادل على إثرها الاتهامات بين مجلس السيادة والدعم السريع وقوىً سياسية مختلفة. مع العلم أن الكارثة وقعت بعد أسابيع من توترات محلية واشتباكات محدودة بالمنطقة، ومثلت ضربةً موجعةً للإدارة الأهلية التي فقدت أحد أبرز…

نازحو الفاشر في الدبة
رأي

نزوح الفاشر إلى الدبة.. حين تضغط الجغرافيا وتنكسر السياسة

الآثار الكارثية لما وقع في الفاشر لن تمحي قريبًا. الآلاف قتلوا وشردوا وانتهكت أعراضهم في واحدة من أسوأ مشاهد الحرب الدائرة في السودان، بل هي مأساة مكتملة،

النقارة السودانية
منوعات

النقارة السودانية.. طبول تروي حكايات الفرح والحزن

تُعد النقارة السودانية نبضًا حيًا للثقافة الموسيقية في البلاد، فهي تحمل في دقاتها إرثًا فنيًا زاخرًا بالإبداع، وبين طياتها رسائل مختلفة، تعبر أحيانًا عن الفرح وأحيانًا عن الفزع والحزن، عبر إيقاعات متنوعة ومتفردة. تُلهب هذه النقارة الروح وتحتفي بالهوية والذاكرة الشعبية، وتستخدم بشكل خاص لدى قبائل كردفان.


مطار نيالا
أخبار

الطيران الحربي للجيش السوداني يشن غارات على مطار نيالا

شنَّ الجيش السوداني، السبت 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، غاراتٍ جوية على مواقع قوات الدعم السريع داخل مطار نيالا في ولاية جنوب دارفور.

الطبيب السوداني جمال الطيب
مجتمع

صمد لـ 30 شهرًا.. طبيب سوداني يُضيء الظلام بالحصول على جائزة دولية

بعد 30 شهرًا، توّجت منظمة أورورا الدولية الطبيب السوداني جمال الطيب بطلًا للقطاع الطبي والصحي والإنساني، من بين 900 شخصية حول العالم نافسوا على الجائزة التي أُعلن عنها الخميس 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2025.

الأكثر قراءة

1
أخبار

شبكة أطباء السودان: الدعم السريع أقدمت على حرق الجثث في الفاشر


2
أخبار

رحلة محفوفة بالمخاطر.. والي شمال دارفور يصل إلى بورتسودان 


3
أخبار

عبدالفتاح البرهان يتفقد نازحي الفاشر في الدبة بالولاية الشمالية


4
أخبار

الحكومة السودانية تعلن التزامها بخارطة الطريق لإنهاء الحرب


5
سياسة

مدنيون نزحوا من بارا: نجونا من فرق إعدام متجولة بالمدينة