رأي

الدبيبات.. ما بعد السيطرة ليس كما قبلها

24 مايو 2025
الجيش - الاستخبارات.jpg
(تعبيرية)
الفاتح محمد
الفاتح محمدكاتب من السودان

إن استعادة الدولة سيطرتها على مدينة استراتيجية مثل الدبيبات، لا يُقرأ فقط في إطار التحركات العسكرية، بل في سياق أوسع يتعلق بإعادة ترتيب موازين المشهد السوداني، وكسر منطق فرض الوقائع عبر السلاح. وأيضًا، التقدم الأخير للجيش يفتح الباب أمام نقاش أعمق حول طبيعة الحرب الجارية في السودان، وحدود المشروع الذي يمكن أن يوصف بأنه يسعى إلى تقويض الدولة الوطنية وتحويل السودان إلى ساحة صراعات ممتدة بلا أفق سياسي واضح.

في حرب السودان، لا تُقاس التطورات الميدانية بميزان الأرض وحدها، بل بميزان التأثير الاستراتيجي على مسارات الإمداد، وتوازن القوى، وربما على مسار التفاوض السياسي لاحقًا.

تقع مدينة الدبيبات في الجزء الشمالي الغربي من ولاية جنوب كردفان، وتعد حاضرة محلية القوز الإدارية

تقع مدينة الدبيبات في الجزء الشمالي الغربي من ولاية جنوب كردفان، وتعد حاضرة محلية القوز الإدارية، وتبعد حوالي 700 كيلومتر جنوب الخرطوم، و186 كيلومترًا غرب كادوقلي، و60 كيلومترًا شمال مدينة الدلنج، و100 كيلومتر جنوب شرق الأبيض، بينما يعود أصل اسمها إلى كلمة "دبة"، وتعني التلة الصغيرة في اللهجة المحلية.

ويعتمد اقتصاد المدينة على الزراعة المطرية وتربية الماشية، كما تشتهر الدبيبات بسوق كبير للإبل يُعتبر من أهم أسواق الإبل في البلاد. إضافة إلى ذلك، تعتبر مركزًا لتجميع المحاصيل والمنتجات الحيوانية القادمة من القرى المجاورة، ما يمنحها دورًا تجاريًا محوريًا على المستوى المحلي، ويقطن الدبيبات مزيج من المجتمعات القبلية، أبرزها قبائل المسيرية والحوازمة والكنانة، إلى جانب مجموعات من النوبة.

لذلك، تُعد المدينة بمثابة عقدة مواصلات حيوية، وتمثل القلب النابض لحركة الإمدادات بين شمال وغرب وجنوب كردفان. طوال الشهور الماضية، استخدمت قوات الدعم السريع وقوات عبد العزيز الحلو هذه المدينة كجسر إمداد حيوي يربط بين مواقعها في جنوب كردفان وغربه بدارفور، خاصة عبر الخط القادم من الفولة والمجلد وأبوزبد.

سيطرة الجيش على الدبيبات تعني عمليًا قطع هذا الشريان الرئيسي، وتأمين مناطق جنوب الأبيض، والاقتراب من مناطق ذات أهمية استراتيجية مثل الفولة وأبوزبد

من هذه الزاوية، فإن سيطرة الجيش على الدبيبات تعني عمليًا قطع هذا الشريان الرئيسي، وتأمين مناطق جنوب الأبيض، والاقتراب من مناطق ذات أهمية استراتيجية مثل الفولة وأبوزبد. وهذا يعني كذلك خطوة حاسمة نحو إعادة وصل الطريق القومي بين الأبيض والدلنج وكادوقلي، وبالتالي فتح الطريق لفك الحصار المفروض على كادوقلي منذ عامين.

ولعل الأهم في هذا التقدم ليس فقط ما تم استعادته من أراضٍ، بل ما يمكن أن يُبنى عليه في المرحلة القادمة. 

إضافة إلى ذلك، تأمين محيط الأبيض، وتحديدًا من جهة الجنوب، يفتح الطريق أمام تشغيل مطارها الحيوي والاستراتيجي، ويمنح القوات المسلحة ميزة استراتيجية في الوصول إلى عمق دارفور بسرعة وكفاءة نظرًا لقرب المسافة.

ومن ناحية أخرى، فإن استعادة الجيش للدبيبات تحمل دلالات سياسية لا تقل أهمية، فهي توجه ضربة مباشرة للتحالف بين قوات الدعم السريع والحركة الشعبية جناح الحلو، والذي فقد الآن أحد أبرز مواقعه في جنوب كردفان. كما أنها تؤكد أن الجيش ما زال يحتفظ بالمبادرة، وقادر على خلط الأوراق، خلافًا لما حاولت بعض القوى الإقليمية وإعلام الدعم السريع الترويج له.

سيطرة القوات المسلحة السودانية على مدينة الدبيبات تعيد رسم ملامح الصراع من زاوية سياسية

كذلك، فإن سيطرة القوات المسلحة السودانية على مدينة الدبيبات تعيد رسم ملامح الصراع من زاوية سياسية بحتة، إذ يعكس حضور الدولة المركزية في مناطق كانت مهددة بأن تتحول إلى مساحات خارجة عن السيطرة، تُدار وفق توازنات قوى محلية أو إقليمية، فهذا التحوّل يُعيد الاعتبار لفكرة الدولة الوطنية باعتبارها الضامن الوحيد لوحدة السودان واستقراره، ويضعف الطروحات التي سعت إلى فرض معادلات سياسية قائمة على الأمر الواقع والسلاح، لا على التوافق والمؤسسات الشرعية.

وفي ضوء هذا التحول، تبرز عدة سيناريوهات محتملة لما قد يقوم به الجيش في الفترة المقبلة. فإما أن يتوجه نحو السيطرة على بارا وأبوزبد لتأمين عمق الأبيض بالكامل، أو أن يواصل الزحف جنوبًا لفك الحصار عن الدلنج وكادوقلي، أو التحرك نحو النهود والفولة وفك حصار بابنوسة، أو حتى يتجه إلى كاودا في حال قرر فتح جبهة جديدة ضد قوات الحلو. وفي كل الأحوال، فإن المشهد العسكري بعد السيطرة على الدبيبات أصبح أكثر انفتاحًا وتنوعًا في خياراته.

ما بعد الدبيبات ليس كما قبلها، فالجيش باستعادته لتلك المنطقة غير المعادلة كليًا

يبقى أن نقول إن ما بعد الدبيبات ليس كما قبلها، فالجيش باستعادته لتلك المنطقة غير المعادلة كليًا، والتحدي الحقيقي الآن لا يكمُن في ما تحقق من استعادة، وإنما في القدرة على تثبيت هذا التقدم وتأمينه بالكامل، ومنع أي محاولات للتسلل أو الالتفاف من الطرف الآخر. المشهد العسكري دخل طورًا مختلفًا، تبرز فيه أسئلة ثقيلة: هل تتحرّك الجبهات الأخرى في غرب السودان على خطى الدبيبات؟ هل بدأ فعليًا العد التنازلي للوصول إلى الضعين من بوابة غرب كردفان؟ أم أن المرحلة القادمة ستكون أكثر حدةً وضراوة من كل ما سبق؟

ختامًا، إن ما جرى في الدبيبات لا يمكن فصله عن السياق الأوسع لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية واستعادة زمام المبادرة من قبل الدولة السودانية، هذه الخطوة قد تفتح المجال لخيارات جديدة في إدارة الحرب، وتدفع باتجاه استعادة الثقة في قدرة المؤسسات الرسمية على حماية وحدة البلاد. ومع توالي التطورات، يبقى التحدي الأهم هو البناء على هذا التقدم بشكل مسؤول، وتوجيهه نحو تسوية شاملة تحفظ السودان من مزيد من التشرذم وتعيد الأمل في أفق سياسي جامع.

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

الكلمات المفتاحية

فعالية لتحالف صمود

هل تحالف "صمود" قابل للإصلاح؟

بما أن تحالف "صمود" يرغب في سماع الآراء المخالفة، يجب عليه الوضع في الاعتبار أن الإصلاح، بالنسبة للقوى المدنية المنخرطة في البحث عن الحكم المدني والديمقراطية، يمكن أن يحدث إذا تحملت "عملية جراحية قاسية"، وقررت العودة إلى نقطة الصفر عند حدود ثورة ديسمبر، ومراجعة التحالفات التي ارتُكبت فيها أخطاء فادحة


image

الإسلاميون في السودان.. من الشعارات إلى واقع الانهيار

لم ينتظر الإسلاميون كثيرًا عقب سقوط نظامهم، فانخرطوا في معارضة السلطة الانتقالية التي ورثت كثيرًا من التحديات على عدة أصعدة؛ أبرزها تعدد الجيوش، والانهيار الاقتصادي، والديون الهائلة التي ظلت تتراكم، وملف العدالة


آثار دمار في الخرطوم.jpg

السودان.. هل يذهب نحو السيناريو الليبي؟

يعتقد كثيرٌ من السودانيين أن مآلات هذه الحرب ستشبه كثيرًا السيناريو الليبي، وأننا موعودون بنظامين يقسِّمان السودان شرقًا وغربًا؛ تكون فيه القوات المسلحة تحكم الجزء الشرقي، الذي يضم "الإقليم الشرقي والعاصمة الخرطوم ووسط السودان وبعضًا من إقليم كردفان"، بينما تتحكم مليشيا الدعم السريع في غرب السودان (ولايات دارفور وبعض من إقليم كردفان)، ويحدث وقف دائم لإطلاق النار، وتستمر الحياة هكذا.


عمر البشير

30 يونيو.. ذكرى انقلاب أطاح بالسودان إلى قاع أزماته

هذا الانقلاب لم يكن مجرد حدث سياسي عابر، بل كان بداية لعقود من الانحدار الشامل الذي طال جميع مناحي الحياة في السودان. فطوال ثلاثين عامًا، تربع هذا النظام على كرسي الحكم، وأحال البلاد إلى أنقاض دولة.

الطقس 2.jpg
أخبار

13 إصابة بينها حالتا وفاة بضربات الشمس بولاية البحر الأحمر

كشفت اللجنة الفنية للطوارئ الصحية بوزارة الصحة ولاية البحر الأحمر، عن تسجيل 13 حالة إصابة بضربات الشمس، بينها حالتا وفاة بولاية البحر الأحمر.

سيول في السودان
أخبار

سيول مفاجئة تتسبب بنزوح عشرات الأسر في شمال دارفور

أعلنت مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة أن السيول الناجمة عن أمطار غزيرة اجتاحت بلدة دار السلام في ولاية شمال دارفور خلال يومي 14 و15 تموز/يوليو الجاري


الدولار-الامريكي-1280x720.jpg
اقتصاد

زيادة جديدة في الدولار الجمركي تحدث سخطًا في أوساط المستوردين بالسودان

قال متعاملون في التخليص الجمركي، إن الحكومة نفذت زيادة جديدة في التعرفة الجمركية الخاصة بعمليات الاستيراد، برفع القيمة من ألفي جنيه إلى 2400 جنيه اليوم الأربعاء.

جانب-من-لقاء-الهلال-والمريخ-أرشيفية.jpg
أخبار

الهلال والمريخ يعتذران عن خوض نهائي كأس السودان

أعلن ناديا الهلال والمريخ في بيان مشترك، أمس الثلاثاء، اعتذارهما عن خوض مباراة نهائي كأس السودان، المقررة في 26 تموز/ يوليو الجاري على ملعب بورتسودان، مبررين ذلك بجملة من التحديات التي رافقت مشاركتهما في البطولات خلال فترة الحرب.

الأكثر قراءة

1
أخبار

احتواء أزمة بين الجيش والقوة المشتركة في سوق صابرين بأم درمان


2
أخبار

النيابة بالشمالية تكشف تفاصيل الهجوم المسلح على قسم شرطة في دنقلا العجوز


3
أخبار

مجلس السيادة يُشكل لجنة عليا لتهيئة الخرطوم وعودة المواطنين


4
أخبار

الحكومة تحدد مواعيد استبدال العملة في ولاية الجزيرة


5
أخبار

الجيش والمشتركة يتمكنان من التصدي لهجوم على الفاشر