09-فبراير-2020

جداريات الثورة (ألتراسودان)

بحكم انتمائي جغرافيًا لمناخات وسط السودان المنغلقة نسبيًا على نفسها، مقارنةً بجغرافيات ومناخات سودانية أخرى أكثر رحابة، وعلى الرغم من ارتحالاتي الدائمة قبل الثورة وبعدها بين شمال كردفان وجنوبها، إلا أنني لم أكن قادرًا على تخيُّل كيف عاش الناس تجربة ثورة ديسمبر في مناطق السودان المختلفة، على وجه الخصوص في مدن الأطراف، و"ضهاريها" البعيدة، وحول تخوم براري الأرياف التي التهمتها آلة الحرب النهِمة الشرِهة.

 تلاشت هذه المسافة حتى امتزجت ملامح الشهيد الثائر كشة مع ملامح الشهيد الثائر الدودو. فلم أعد أعرف أيُّهما كشة أو الدودو

 لم تسعني الحيلة، لا حيلة الوقت ولا حيلة الخيال لكي أتقَّمص حالات الجمال الثوري المُجسَّد. لكن بمجرد دخولي مدينة الأبيض بشمال كردفان، بعد عام من الثورة، رأيت ثورة ديسمبر تتراقص عارية زرقاء في موشحات من الجداريات والرسومات والتصاوير والشعارات الرمزية. إذ سرعان ما تتحوَّل جدران المدينة إلى كرنفال ثوري بهيج وبرَّاق، كلما مرَّ بها العابرون ماسحين وجوههم بسطحها الأملس ومازجين ملامحهم بملامح الشهداء الثوار، بينما الذاكرة تستعيد تلك اللحظات الدفاقة الملهمة التي جسَّدتها ريشة الثائرات والثوار على الجدران.

اقرأ/ي أيضًا: "اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب

 وكأنما حيوات الشهيد الثائر تطلع من الجدارية لكي يعيشها هو في لحظةٍ واحدة، أو بالأحرى ثلاث حيوات تطلع من الجدارية لكي تُعاش بين ثلاثة برازخ مُتيَّمة بعِّشقه وليس في برزخٍ واحدٍ يتيم؛ برزخ حياته اليومية العادية السابقة، وبرزخ حياته الثورية التي عاشها تظاهرًا واحتجاجًا وجسارةً وصمودًا فصعد منها بموته مُحلِّقًا إلى ما وراء الموت والحياة، وبرزخ حياته الأخرى التي ضاعفتها جداريات الثورة من الحياتين الأخريين.

رقصة الكرنق
جدارية رقصة الكرنق (ألتراسودان)

لا تعكس الجدارية شكلًا رمزيًا مرسومًا فحسب، ضرب من التصاوير والرموز ومن حالات الترييِّش الملوَّن، ولكنها تُكالمنا وتهمسُنا بكل دفء وأنس حميمين. تطلع الجدارية من الصمت إلى الكلام، كلما رفرفت روح الشهيد الثائر بحماماتها البيضاء وحطت على سطح الحجر الحنون الأملس. لا أرى في الجدارية صورة الشهيد الثائر فحسب، بقدر ما أخرج من عين الرائي وأنفذ إليها وأتخلَّلُّها فأطوف في جوفها مستعيدًا مرةً أخرى حياته السابقة والممتدة إلى حياته الأخرى، التي أحياها أنا أيضًا مضاعفة مرتين هنا وهناك وبين برازخ الطلقاء الحالمين الأحرار.

في الجهة المقابلة لـجبل "مكوكية" قبيلة الأجنق بمدينة الدلنج بجنوب كردفان، ينتصب سور جامعة الدلنج المتوَّشح بجداريات ثورة كانون الأول/ديسمبر. وعلى جانبي البوابة الرئيسية لداخلية البنات، يهِّلُّ عليك الشهيدان عبد السلام كشة، ومحمد عيسى الدودو. لا تفصل بين الجداريتين سوى سنتمترات قليلة، لكنها فارهة وحنونة في دوزنتها لروح الانتماء لأكثر من هوية أو مكان أو جغرافيا. فإذا كان كلا الشهيدين ينتميان إلى جغرافيات وأماكن وهويات بعيدة عن بعضها البعض، فإن جداريات ثورة كانون الأول/ديسمبر دوزنت هذا التباعد وحوَّلته إلى لقاء دائم ومجسَّد في هوية اجتماعية وسياسية جديدة ومفتوحة، لقاء متنوع ومتعدد وليس أحادي الهوى والهوية، لقاء جسدته أيضًا شعارات الثورة وتجربة الاعتصام، بوصفها تجربة عيش وجداني مشترك ومفتوح.

 

بينما أطيلُ النظر المتأمِّل بين الجداريتين، خاشعًا ساهمًا حالمًا، تلاشت هذه المسافة الفارهة الحنونة، شاعرًا بالتداخل بين الجداريتين واندغامهما معًا حتى امتزجت ملامح الشهيد الثائر كشة مع ملامح الشهيد الثائر الدودو. فلم أعد أعرف أيُّهما كشة أو الدودو. لقد شعرت أن هذا المشهد الجمالي يُجسِّد روح الشكل الدائري الجديد للوطن الجديد الذي اكتشتفته وعبَّرت عنه الثورة، بعد أن أخذت الاحتجاجات تندلع بشكل دائري من مايرنو والدمازين، لينحني مسارها الدائري إلى الخارج أكثر ضامًا بورتسودان والقضارف، ليعود ذات المسار الدائري إلى الداخل فيلتف حول عطبرة وبربر صعودًا إلى دنقلا وحلفا، لينحني المسار مجددًا هبوطًا إلى الخرطوم ومدني وسنار وكوستي، عبورًا إلى الأبيض والفاشر ونيالا والجنينة، لتعود دائرة الاحتجاجات السريان راسمة نفسها مرة أخرى في مسار دائري آخر متجدد عابر لهذا الجغرافيات والأماكن التي حررها هذا المد الدائري المفتوح من المسارات الخطية القديمة التي شظَّت البلاد وقسَّمتها إلى أضداد وثنائيات.

 لقد حولَّتنا ثورة ديسمبر إلى بشر طلقاء وأحرار ينتمون إلى كل الأماكن والجغرافيات والهويات. لقد شرعنا في تحرير مخيَّال العشيرة والقبيلة والأصل الإثني والمكاني الواحد بروح الارتحال الوجودي الوَّثاب والعابر لكل إنتماء ضيق ولكل هوية مغلقة.

اقرأ/ي أيضًا: أيقونات الثورة السودانية..وجوه صنعت الثورة

لقد وحدت روح ثورة ديسمبر الجوابة والمرتحلة والعابرة للانتماءات الضيقة وللهويات المغلقة بين جمال الرقص الفلكوري الذي تجسده جدارية رقصة "الكِرَنق" الطقسية السائدة وسط قبائل جبال النوبة، وفكرة الوطن التي تجِّسِّدها بدورها جدارية "وطن يسع الجميع". فرقصة "الكِرنق" تحذو فيها القدم اليسرى أو اليمنى رازمة الأرض حذو قدم الشريك الراقص التي تشاطر نظيرتها الأخرى الإيقاع الرازم، حيث يحوَّل الأداء الرقصي الطقسي المتناغم الشريكين من رجل وامراة إلى راقص وراقصة يعرفهما جمال الرقص فحسب، وليس هويتهما الجندرية أو الجنوسية. وهو ذات الجمال الرحب الذي يخلق وطنًا يسع الجميع، فلا يختزل الرجال والنساء بوصفهما رجالًا ونساءً، ولكنه يُشرِع أجنحته ضامًا أيضًا إثنيات وثقافات وجغرافيات وانتماءات دينية وولاءات آيديولوجية سياسية متعددة ومتنوعة.

 رحل شهداؤنا لكن أرواحهم ستظل تسكننا كالحمائم  لتهدل بصوتها الصدَّاح من أعلى سور حالاتنا وأمزجتنا اليومية كلما تأملنا  الجداريات.

لقد تحوَّلت كل جداريات الثورة إلى مزارات دائمة الحضور في حياتنا اليومية، حيث ترمز جدارية أي شهيد من الشهداء إلى حياته الأخرى التي تنبعث كلما تأملنا هذه الجداريات. إن جدارية كل شهيد ثائر هي بمثابة مزار جوَّال يزور حياتنا اليومية ليل نهار، فيختلج بحالاتنا المزاجية والذهنية والروحية ويُحرِّرنا من وطأة الوجود ومشَّقة الحياة ومكابداتها. لقد رحل شهداؤنا بأجسادهم، لكن أرواحهم ستظل تسكننا كالحمائم البيضاء التي تنام وتحلم لكي تهدل بصوتها الصدَّاح من أعلى سور حالاتنا وأمزجتنا اليومية في كل لحظة شوف وتأمُّل لهذه الجداريات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جداريات الثورة السودانية.. الخرطوم تحتفي بشهدائها

بروفايل ثوري.. سلسلة كتابات لا نهائية