22-يوليو-2015

شوقي شمعون/ لبنان

منذ وصول العسكر إلى رأس السلطة في السودان عبر انقلابهم عام 1989. لم يشهد السودان انفراجةً كتلك التي صاحبت توقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005. التي انعكست نتائجها المؤقتة، والمرهونة باستفتاء تقرير المصير للجنوب، على توسيع هامش الحريات السياسية والإعلامية، فصار بمقدور أحزاب المعارضة السياسية فتح مقرات وصحف لها لممارسة نشاطها، فضلاً عن منظمات المجتمع المدني، في جو شبه ديمقراطي سرعان ما انحسر بعد استقلال جنوب السودان عام 2011. 

لم تنحصر هذه التداعيات على النشاط السياسي والإعلام، بل تجاوزته إلى الثقافة، حيث قادت السلطات السودانية حملة تدريجية لإغلاق المراكز الثقافية منذ حوالي ثلاث سنوات، طالت العديد من المؤسسات الناشطة في هذا المجال. بدأت بإغلاق "مركز الدراسات السودانية"، و"مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية"، و"مركز محمود محمد طه"، وتواصلت هذا العام بإغلاق "اتحاد الكتاب السودانيين"، وفي كل مرة كانت تجد السلطات، متمثلةً في وزارة الثقافة، تبريراً صارماً يستند إلى القانون.

منذ ثلاث سنوات، تقود السلطات السودانية حملة تدريجية لإغلاق المراكز الثقافية

فبعد أن احتفى "اتحاد الكتاب السودانيين" بما أسماه "الميلاد الثاني" في 2006، ممارساً نشاطاته مدة تسع سنوات، ضاماً في عضويته أبرز الكتاب السودانيين من مختلف الأجيال، أعادت السلطات إغلاقه مرة أخرى، عبر إلغاء تسجيله من سجل الجماعات الثقافية بالوزارة. معللة ذلك في قرارها الموجه للاتحاد بمخالفة قانون تنظيم نشاط الجماعات الثقافية القومية. الأمر الذي وصفه اتحاد الكتاب في بيانه المنشور في فبراير الماضي "لسنا استثناءً من سلسلة اعتداءات النظام الحاكم على منظمات المجتمع المدني المستقلة.. ولن تنتهي بالاعتداء على اتحادنا". 

مؤخراً، امتنعت وزارة الثقافة عن تقديم التصديق الشهري لإقامة معرض "مفروش" للكتاب المستعمل، والذي تنظمه جماعة عمل الثقافية منذ أكثر من عامين في ساحة أتنيه، بالسوق الإفرنجي في وسط الخرطوم. كمساحة مفتوحة ليس فقط للمكتبات وباعة الكتب ممن يفترشون الأرصفة، ولكن حتى للأفراد لاستبدال وبيع كتبهم وشراء كتب جديدة، في أول ثلاثاء من كل شهر. بذريعة أن تصديق إقامة المعارض ليس من اختصاصها، بل من اختصاص إدارة المصنفات الأدبية، التي طالبت بدورها بقوائم الكتب المعروضة، وفقاً لإبراهيم الجريفاوي عضو "جماعة عمل".

المعرض والذي يعتبر واحداً من المتنفسات الأخيرة لرواد الثقافة والأدب في السودان، صار ساحة للتصارع البيروقراطي بين وزارة الثقافة الاتحادية ووزارة الثقافة بولاية الخرطوم، فوفقاً للنظام الفيدرالي توجد وزارة ثقافة بكل ولاية في السودان، رغم أن الوزارة الاتحادية نفسها لا تمتلك نسبة مئوية برقم صحيح من الميزانية القومية، حيث قامت "إدارة المصنفات الأدبية الاتحادية" بمطالبة "جماعة عمل" بتقديم قوائم عناوين الكتب المعروضة لإجازتها، حتى يتسنى للجماعة استخراج تصديق إقامة المعرض من إدارة المصنفات الأدبية بولاية الخرطوم، للمرة الأولى منذ إقامة هذه الفعالية. 

ويوضح الجريفاوي تعقيد الإجراءات المستحدثة من قبل السلطات بقوله: "كان تصديق وزارة الثقافة وحده كافياً لإقامة المعرض طيلة الثلاث سنوات الماضية، إلا أن مطالبة المصنفات الأدبية الاتحادية بقوائم الكتب يتنافى مع طبيعة المعرض الذي يقوم على بيع وتبادل الكتب المستعملة. الشيء الذي يجعل من الصعوبة تحديد عناوين الكتب التي سيتم عرضها". 

أغلقت الحكومة المركز الثقافي الإيراني بهدف إعادة العلاقات مع السعودية ومصر

صاحبت هذه العوائق البيروقراطية لإقامة المعرض، انتشار ملصق على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك يعلن عن إقامة "جماعة أنصار السنة" ندوة دينية في نفس مكان وزمان إقامة المعرض الشهري، في شكل موارب من التضييق والإقصاء. وعندما سئل الدكتور عبدالقادر التهامي الأمين العام للجماعة في لقاء صحفي في "صحيفة التيار"، في العاشر من آيار/مايو الماضي، وصف الأمر بأن "أمر الدعوة حق مكفول لكل أفراد أنصار السنة ينصحون في أي مكان، وليس من الشرط في تقاليد أنصار السنة أخذ الإذن لنشر الدعوة"، مشبهًا نشاط "جماعة عمل" ومعرضها "مفروش" بـ "فكر العلمانيين إن لم يكونوا علمانيين". 

ورغم إعلان "جماعة عمل" عن تعليق إقامة المعرض على صفحتها في موقع فيسبوك، فقد امتلأت ساحة أتنيه بالعشرات من رواد المعرض الذين حضروا في الموعد رغم تعليق المعرض في شكل من أشكال التضامن، فيما غاب أعضاء "جماعة أنصار السنة" عن المكان دون إبداء أي تصريح. 

على الجانب الآخر، تمارس المراكز الثقافية الأجنبية مثل "معهد غوته" و"المركز الثقافي الفرنسي" و"المجلس البريطاني" أنشطتها بشكل اعتيادي، باعتبارها مؤسسات منضوية تحت المظلة الدبلوماسية للدول الأوروبية التابعة لها. بينما أغلقت الحكومة، في وقت سابق من هذا العام، "المركز الثقافي الإيراني" التابع للملحقية الثقافية الإيرانية، كشكل من أشكال تحجيم التعاون بين النظام السوداني والنظام الإيراني، في خطوة كانت ترمي عبرها الحكومة إلى إعادة علاقاتها المتوترة مع المملكة العربية السعودية ومصر، وقد تكللت بتعاون عسكري رمزي وانضمام القوات المسلحة السودانية إلى حملة "عاصفة الحزم" التي قادتها السعودية لضرب مد النشاط المسلح لجماعة "أنصار الله"، الموالية لإيران في اليمن. 

ولكن بعيداً عن التوازنات الإقليمية، ودور الحكومة السودانية في تحجيم النشاط الثقافي، تبقى منافذ أخيرة للنشاط الثقافي في البلاد، مثل "مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي" الذي تم التغول على جائزة الطيب صالح الأدبية التي أطلقها منذ العام 2002، باعتباره الجهة المالكة لحقوق نشر أعمال الأديب السوداني الراحل، لصالح "شركة زين للاتصالات" التي أطلقت بدورها جائزة تحمل الاسم نفسه، ولكن بجوائز تفوق قيمتها العشرة آلاف دولار في عدة فئات، لتظل الجهات الوحيدة التي تستطيع تسيير أنشطتها الثقافية هي تلك المستندة على دعم رأس المال مثل "منتدى دال الثقافي" الذي تنظمه مجموعة "شركات دال"، أو "مركز الفيصل الثقافي" الممول من بنك فيصل الإسلامي السعودي، فيصبح النشاط الثقافي في السودان بذلك مرهوناً بين مطرقة ضعف التمويل القومي والخاص، وسندان المعوقات البيروقراطية والتضييق الحكومي.