25-نوفمبر-2024
الطيران الحربي السوداني

بدأت فكرة استدعاء التدخل العسكري الإنساني في حرب السودان الحالية منذ وقت مبكر، وذلك حينما اقترح مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي (15/6/2023) إخلاء الخرطوم من السلاح والوجود العسكري. وجاءت قمة الإيقاد (10/7/2023) لتعلن اتجاهها لنشر قوات إفريقية دون التشاور مع حكومة السودان والجيش. ثم أعقب ذلك دعوة الرئيس الإثيوبي آبي أحمد لفرض حظر طيران على كل السودان ونزع الأسلحة الثقيلة، رغم أنه رفض مجرد الوساطة الإفريقية في حربه ضد التيغراي.

خفتت تلك الدعوات إلى أن بدأت أصوات في تحالف القوى الديمقراطية المدنية (تقدّم) تجهر بها، ثم صارت مطلبًا جهيرًا، لا سيما في زيارة رئيس (تقدّم) د. عبد الله حمدوك إلى بريطانيا (أكتوبر – نوفمبر 2024)، حيث أعطى حظر الطيران الأولوية في طلبه، ووضع إمكانية دخول قوات على أرض السودان لحماية المدنيين في المرتبة الثانية.

 حظر الطيران (No-Fly Zone) والمناطق الآمنة (Safe Zone)

 المنطقة الآمنة، بحسب تعريف المجلس النرويجي للاجئين، هي منطقة مؤقتة تهدف إلى تأمين وحماية المدنيين وتجنيبهم آثار العدائيات. لم يظهر هذا المصطلح في أدبيات القانون الدولي الإنساني أو المعاهدات الشبيهة، ولكن ظهرت في القانون الدولي الإنساني أشكال من المناطق المحمية مثل المستشفيات، والمناطق المحايدة، والمناطق منزوعة السلاح.

أما مناطق حظر الطيران، فهي مناطق يُمنع فيها الطيران العسكري للجهة الممنوعة من الطيران، في مناطق غالبًا ما تكون خاضعة لسيطرتها، وتنفذه قوة عسكرية أخرى (قوات دولية أو خارجية أخرى مفوضة) لأسباب إنسانية أو عسكرية. ويمكن تشبيه تلك المناطق بالمناطق منزوعة السلاح الجوي.

لا يقتصر الإجراء على منع الطيران وضربه عند خرق الحظر، وإنما يتضمن أيضًا توجيه ضربات استباقية وقائية ضد قوات الدولة التي يشملها حظر الطيران وإضعاف قدراتها القتالية.

ولكي تكتسب تلك المناطق الصفة الشرعية والقانونية، ينبغي أن يتم ذلك إما باتفاق أطراف النزاع المسلح أو بصدور قرار من مجلس الأمن.

برزت هذه الظاهرة في مطلع تسعينات القرن الماضي، حينما أقامت الولايات المتحدة وحلفاؤها في عام 1991 مناطق حظر طيران على شمال العراق لحماية الأكراد، وفي جنوب العراق لحماية الشيعة. لم يستند ذلك الحظر إلى موافقة أو قرار من مجلس الأمن، مما حدا بالأمين العام الأسبق للأمم المتحدة (بطرس غالي) لأن يصفه بعدم القانونية.

لقد تمت تجارب حظر الطيران في سياقات متعددة، ومن نافلة القول أنها كلها لم تخلُ من البعد السياسي المباشر وليس الإنساني

وفي عام 1992، أصدر مجلس الأمن القرار (781) بحظر الطيران في البوسنة، وقام حلف الناتو بمراقبة تطبيق ذلك القرار. ولكن استمرت خروقات القوات الصربية لذلك القرار، حيث بلغت (500) خرق دون أي رد فعل من قوات الناتو حتى صدور القرار (816) في مارس 1993. ثم صدر القرار (836 )بإعلان سربرينيتشا منطقة آمنة، ولكن ذلك لم يمنع الجيش الصربي من ارتكاب مجزرة قتلت ما يتراوح بين سبعة إلى ثمانية آلاف من المدنيين تحت سمع وبصر قوات حماية المدنيين على الأرض.

وفي ليبيا، أصدر مجلس الأمن (17/3/2011) قرارًا بحظر الطيران على ليبيا، وتم تطبيق القرار بواسطة الناتو، حيث قامت قواته بضربات استباقية على قوات الجيش الليبي ولم تكتفِ بضرب الطائرات التي تخرق الحظر.

لقد تمت تجارب حظر الطيران في سياقات متعددة، ومن نافلة القول أنها كلها لم تخلُ من البعد السياسي المباشر وليس الإنساني. فقد انسحبت فرنسا من التحالف الدولي في العراق عام 1996 معلنةً أن الحظر أخذ أشكالًا وأهدافًا غير الأهداف الإنسانية.

وفي الحرب الأوكرانية، رفض الناتو التورط في حظر الطيران، لا سيما بالنظر إلى امتلاك روسيا أسلحة نووية ومقدرة على إيذاء القوات التي تطبق الحظر. وبغض النظر عن الأبعاد السياسية، فقد فشلت كثير من التجارب في تحقيق أهدافها الإنسانية المعلنة؛ فقد رأينا نتائج حالة البوسنة الكارثية على سربرينيتشا، وكذلك لم تنجح بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان في حماية المدنيين الذين لجأوا إلى مقرها ولا في حماية نفسها. كذلك حالة اليوناميد في السودان وفشلها في حماية المدنيين في دارفور.

وخلصت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد (2004) بعنوان "دروس من العراق والبوسنة حول نظرية وتطبيق مناطق حظر الطيران" إلى أن هناك شروطًا لنجاح أية مهمة لحظر الطيران، منها وجود هيكل قيادة واضح وموحد، وأن غياب ذلك في حالة البوسنة أدى إلى الازدواجية وغياب التنسيق، مما انعكس على الأداء. كما أن على الدول المشاركة في الحظر معرفة أهداف سياساتها واستراتيجية الخروج من المهمة (Exit Strategy) مسبقًا، وذلك تجنبًا لمشكلة المراقبة الدائمة عبر الدوريات. كما أشارت الدراسة إلى أهمية الدعم الإقليمي لنجاح أية عملية، حيث استشهدت بأثر امتناع تركيا عن دعم التحالف في حربه على العراق في إعاقة العملية.

ويرى المجلس النرويجي للاجئين أن نجاح المناطق الآمنة يتطلب موافقة جميع أطراف النزاع باتفاق مكتوب ومفصل أو بقرار من مجلس الأمن الدولي، مع ضمان توفير التمويل والأفراد والتفويض، وأن تكون العملية ذات طبيعة مدنية بحتة، وأن يكون دخول المدنيين للمناطق الآمنة طوعًا وليس جبرًا.

أما المحاذير التي تصعّب نجاح المناطق الآمنة، فهي كثيرة، منها صعوبة الوصول إليها في ظل عدم الاتفاق، وكذلك مخاطر قربها من مواقع المتقاتلين ومن البنيات التحتية، ومنها احتمال النظر إلى المدنيين خارجها على أنهم جزء من المقاتلين أو المتعاونين

أما المحاذير التي تصعّب نجاح المناطق الآمنة، فهي كثيرة، منها صعوبة الوصول إليها في ظل عدم الاتفاق، وكذلك مخاطر قربها من مواقع المتقاتلين ومن البنيات التحتية، ومنها احتمال النظر إلى المدنيين خارجها على أنهم جزء من المقاتلين أو المتعاونين. وهناك مخاطر استخدام الأطراف لها كمخازن سلاح، مما يعرض المدنيين لأخطار أكبر، أو استخدامها كتكتيك سياسي لإخلاء أراضٍ واحتلالها وتهجير المواطنين. هذا إضافة إلى عدم رغبة أو قدرة قوات الحماية في التصدي للهجمات وحماية المدنيين.

وقد رأينا عجز قوات اليوناميد وعدم رغبة أفرادها في حماية المدنيين في دارفور، حيث ظلت تقبع في ثكناتها، بل وتعجز عن التصدي للهجمات الواقعة عليها هي نفسها، وكانت تعتمد في تحركها على استصدار إذن من الحكومة، بينما من المفترض أنها جاءت لتحمي المواطنين من هجمات الحكومة.

ومن المهم الإشارة إلى التقرير الذي قدمته لجنة تقييم بعثة اليوناميد (29 ديسمبر 2021) بالرقم (S/2021/1099) للأمين العام، والذي أحاله لمجلس الأمن، حيث ذكر التقرير أن البعثة لازمها كثير من الإخفاقات؛ فهي فشلت في حماية المدنيين في كثير من الحالات، بل وفشلت في حماية نفسها من الهجمات، كما فشلت في الدور السياسي للوصول إلى حل. واختتمت اللجنة تقريرها بأهم توصية، وهي: "ضغط الرأي العام قد يكون عاملًا مساعدًا قويًا لفعل شيء لحماية المدنيين، ولكن هذا لا يجب أن يقود وحده لنشر عملية سلام إذا كانت الشروط السياسية لنجاحها غائبة".

السياق السوداني في الحرب الحالية

أما في السياق السوداني، فلا بد من ملاحظة الآتي:

 إن حرب السودان هي حرب داخل الدولة (Intra-State) بين جيش نظامي وقوات بدأت شبه نظامية، ثم انتهت إلى قوات غير نظامية، لذلك يمكن أن تُصنف علميًا تحت باب الحرب غير النظامية (Irregular Warfare). ومع تقدم الحرب، تغيرت طبيعتها وأهدافها عدة مرات.

بدأت الحرب كحرب شبه نظامية بين جيشين، حيث ظلت كل قوة تستهدف مقار ومقدرات القوة الأخرى. ولكن بسرعة تحولت إلى حرب غير نظامية، حيث بدأ الدعم السريع يستخدم أساليب الهجوم على البنية التحتية غير العسكرية، ثم الأهداف المدنية ومساكن المواطنين، ثم استهدف المواطنين أنفسهم بالقتل، وفرض الحصار عليهم، واعتقالهم، ونهب الممتلكات، والتهجير، والإذلال الذي شمل الجلد والاغتصاب، وفرض أنواع الجبايات والفدية للإفراج عن الأسرى، وغير ذلك.

جمع الدعم السريع بين كل الأساليب الثلاثة المعروفة في الحروب غير النظامية، وهي:

  • التمرد: العمل على إضعاف السلطة المركزية بهدف إسقاطها والحلول محلها.
  • حرب العصابات: القيام بضرب الأهداف بصورة مباغتة وسريعة والانتقال إلى أهداف أخرى.
  • الإرهاب: الاعتداء على المدنيين بهدف ترويعهم وتهجيرهم وزعزعة الثقة في الخصم.

وهذه هي الأساليب المعروفة للجيوش غير النظامية في حربها مع الجيوش النظامية. وغالبًا ما تقتصر حركات التحرر والمقاومة على النوعين الأولين، ولكن الدعم السريع استخدم أسلوب الإرهاب بشدة في منطقة الجزيرة، لا سيما في شرقها.

بينما لجأ الجيش في استراتيجيته العسكرية إلى استراتيجية دفاعية للاحتفاظ بقدراته العسكرية المادية والبشرية، حيث يدرك عدم مقدرته على تعويض الخسائر البشرية والمادية، عكس خصمه الذي لديه مصادر إمداد مفتوحة من حيث الجنود والعتاد العسكري.

اعتمد الجيش في تنفيذ تلك الاستراتيجية بشكل أساسي على سلاح الطيران، وإلى حد ما على المُسيّرات، وعلى العمليات الخاصة، وتجنب الهجوم المباشر بالمشاة لنقص المشاة وتمدد مساحة انتشار الدعم السريع. وبقي مدافعًا عن مقراته ووحداته.

عندما بدأت الحرب، كان التفوق العسكري واضحًا للدعم السريع لعدة أسباب، منها تموضعه الاستراتيجي في العاصمة وحول مقرات الجيش، وتفوقه العددي في المشاة، وتفوق سلاحه الخفيف النوعي، وسهولة الحركة ومناسبتها مع حرب المدن، لا سيما مع تفوقه من حيث نوع وعدد المركبات السريعة، وغير ذلك من الأسباب.

ومع تقدم الوقت واستنزاف الجيش للقوة البشرية للدعم السريع بواسطة سلاح الطيران وعند دفاعات مقراته، ومع حصوله على مصادر ذخائر وأسلحة، ومع تجنيد أعداد كبيرة في المقاومة الشعبية، ومع دخول حركات الكفاح المسلح في دارفور في الحرب لصالح الجيش، تحول الجيش من استراتيجية الدفاع البحت إلى الهجوم، وبدأ يحقق نجاحات عسكرية بطيئة، آخرها تحرير أجزاء من العاصمة، وتحرير موقع جبل موية الاستراتيجي، وصمود الفاشر في وجه هجمات الدعم السريع المتوالية.

رافق هذا نقص واضح في مشاة الدعم السريع، أظهرتها استغاثة القائد علي يعقوب قبل مقتله في الفاشر، والتي أوضحت نقص المقاتلين لديه. وكذلك أوضحها نداء حميدتي الأخير باستنفار قواته كلها، بل وحواضنه الاجتماعية، ومحاولة تحويل الصراع إلى وجهة قبلية، والتحول إلى الخطة (ب)، والتي فُهم ضمنًا أنها تشمل التعامل العنيف مع المدنيين حينما طلب من قواته عدم التصوير. كما صرح حميدتي أيضًا بنقص الذخائر لديهم في نفس الخطاب.

تنفيذًا لوصية حميدتي، انتقلت قوات الدعم السريع للخطة (ب)، وهي استخدام الإرهاب

تنفيذًا لوصية حميدتي، انتقلت قوات الدعم السريع للخطة (ب)، وهي استخدام الإرهاب (القتل الجماعي، والاغتصابات، والحصار، والتجويع، والتهجير، والتسميم، حيث تم تسميم سكان مدينة الهلالية التي تخضع لسيطرة الدعم السريع، ليموت جراء ذلك أكثر من 500 شخص).

شكّلت الوتيرة السريعة والنوعية الفظيعة للانتهاكات بيئة ملائمة لدعوات عمل مناطق آمنة وحظر الطيران.

ولا شك أن حماية المدنيين تظل الغاية الأسمى لكل إنسان، ولا خلاف عليها، إذ يجب حصر الحرب وقصرها على الأهداف العسكرية إذا تعذّر وقفها. ولكن يجب مراعاة الحقائق الآتية على أرض الواقع:

  • أن الأغلبية الساحقة كمًا والأفظع نوعًا هي الانتهاكات الممنهجة الثابتة والراتبة التي ترتكبها قوات الدعم السريع في أي مكان تدخله، بل صار الاستهداف يتم للقرى والأماكن المدنية التي لا توجد بها قوات الجيش. شمل ذلك كل الانتهاكات المذكورة أعلاه، بل وكل ما خطر على قلب بشر. ولذلك، فإن أية خطة لحماية المدنيين يصعب تطبيقها على أرض الواقع لتمدد المساحة التي يحتلها الدعم السريع وسرعة حركته في الإغارة على القرى والمدن، مما يجعل نشر قوات مهمة غاية في الصعوبة. هذا إذا نظرنا إلى طبيعة قوات الدعم السريع الحالية التي التحق بها عدد كبير بغرض النهب وأخذ "الغنائم".
  • وفي المقابل، لا يمكن مقارنة عدد ضحايا المدنيين من قصف الطيران بضحايا الدعم السريع، فعدد الضحايا هنا أقل، وهو من قبيل الأضرار الجانبية المصاحبة (Collateral Damage)، حيث تستهدف الضربات الجوية أماكن تمركز قوات الدعم السريع بالمدن، ولا يهدف القصف إلى ضرب المدنيين، إذ لا فائدة عسكرية أو سياسية في ذلك. وليس للقصف وتيرة ثابتة أو تركيز معين على مناطق سكانية مثل التدمير الذي يمارسه الدعم السريع على الأحياء المدنية والتكايا. وهذا أمر واضح لكل منصف، مع كامل الاعتبار لضرورة تجنب المدنيين وتقدير تناسب القوة مع تحقيق الأهداف العسكرية، والتشدد في التوقي لتجنب إصابة المدنيين. وحتى إذا سلّمنا جدلًا بأن حظر الطيران يساهم في تقليل الضحايا من المدنيين، فإن ذلك لا يوقف الانتهاكات الأكثر والأفظع في الجانب المقابل.
  • وإذا ما علمنا طبيعة الأسلحة المستخدمة لدى كل طرف، فإن حظر الطيران لا يعني سوى منع الجيش من استخدام سلاحه الأبرز وترك الدعم السريع حرًا في حربه ضد الجيش، حتى ولو التزم بعدم مهاجمة المدنيين ووجّه أسلحته نحو قوات الجيش. ولذلك ينظر الجيش لمثل هذا المقترح بأنه يريد كف يده وإطلاق يد الدعم السريع، ولا يلقي الجيش بالًا لهذا المقترح ولا يُنتظَر أن يلتفت له مجرد التفاتة.
  • وكذلك ينظر الجيش وداعموه بشك كبير وتوجس من الأهداف السياسية وراء هذه الدعوة، حيث إنها تجيء بعد تغيّر موازين القوة العسكرية لصالح الجيش وبعد تحوله للاستراتيجية الهجومية في كثير من المحاور وإحرازه بعض التقدم. كما أنها تهدف لترسيخ وجود الدعم السريع والاعتراف له بمناطق سيطرة وإبقائه فيها، وإعادته للمشهد السياسي والعسكري، وإعطائه فرصة لالتقاط أنفاسه بالتجنيد وإعادة التسليح، على الرغم من أن الدعم السريع ما زال يتمتع بعدد كبير من المقاتلين وبمناطق واسعة تحت سيطرته.
  • كذلك يرى البعض أن تلك الخطوة – حظر الطيران – تتم لصالح رعاة الدعم السريع في الخارج وحلفائه السودانيين، لا سيما بعد تراجع سمعة تنسيقية (تقدم) والسخط الشعبي المتزايد عليها، وتعويلها في العودة للمشهد السياسي على بقاء الدعم السريع. ومن هنا يجيء حرصها على بقاء الدعم السريع فاعلًا إذا جاءت تسوية سياسية.

كل هذا يأتي في ظل ضيق وتراجع فرص الحل السياسي للحرب في ظل التطورات الأخيرة، لا سيما أحداث انتهاكات الجزيرة، وتزايد الغضب الشعبي والرفض للدعم السريع، وفي ظل عدم رغبة الجيش في التفاوض قبل تعديل موازين القوة، وفي ظل تعثر الوساطات بسبب أخطاء هيكلية وإجرائية.

إذن، فليس من المتوقع أن تنجح الدعوة لحظر الطيران، إذ ليس هناك إلا ثلاث وسائل لتحقيقها، وهي: إما بتوافق بين طرفي القتال، وهذا غير وارد في ظل غياب اتفاق سياسي شامل لأن المعني بها سيكون فقط تحييد سلاح الجيش وخدمة الدعم السريع. وإما عبر مجلس الأمن عبر الفصل السابع، وهذا صعب جدًا في ظل الفيتو، وفي ظل تضارب الأجندة الإقليمية والدولية، وصعوبة توفير تمويل العملية (إذا لاحظنا الفشل الكبير في الوفاء بالتعهدات الإنسانية لضحايا الحرب). والأصعب هو توفير قوات تدخل على أرض السودان أثناء القتال الحي والنشط وعدم وقف إطلاق نار. الخيار الثالث أن يتم حظر الطيران خارج إطار القانون الدولي مثلما حدث في العراق، وهذا أيضًا مستبعد جدًا، لأن التدخلَ خارج الشرعية ذو كلفة عالية ولا يحدث إلا لمصلحة أو خطر كبير تحسه الولايات المتحدة، وكل هذا مستبعد الآن.

الطريق الأنسب لحماية المدنيين هو وقف الحرب، وليس إنشاء مناطق آمنة أثناء الحرب، لاستحالة ذلك في ظل حرب غير نظامية وفي ظل تمدد المساحات المتعرضة للانتهاكات

وحتى لو تم حل تلك العقبات السياسية والمالية واللوجستية وتم دخول قوات، فستكون أفشل من سابقاتها من قوات حفظ السلام التي دخلت عبر اتفاقات بين أطراف النزاع وفي ظل وقف إطلاق نار أو وقف العدائيات. وما تجارب فشل بعثات الأمم المتحدة في ليبيا (UNSMIL) وفي الكونغو (MONUSCO) وفي أفريقيا الوسطى وفي مالي (MINUSMA) وفي السودان (UNAMID) ببعيدة عن الأذهان. وقد أشرنا لسوابق حظر الطيران في صدر المقال. وصارت دوريات العلوم السياسية تضج بعناوين تبدأ بالسؤال: "لماذا فشلت بعثة الأمم المتحدة في...؟"، حيث يبقى اسم البلد أو المنطقة رقمًا في قائمة الفشل. أما أسباب الفشل، فهذا موضوع آخر ربما نتعرض له في مقالات قادمة، إن شاء الله.

خاتمة

الطريق الأنسب لحماية المدنيين هو وقف الحرب، وليس إنشاء مناطق آمنة أثناء الحرب، لاستحالة ذلك في ظل حرب غير نظامية وفي ظل تمدد المساحات المتعرضة للانتهاكات، ولصعوبة عمل مناطق آمنة دون اتفاق طرفي القتال.

أما الطريق لوقف الحرب، فشرطه إصلاح عملية الوساطة الجارية الآن لعقمها وعيوبها التي سنفصلها في المقال القادم، كما نفصل كيفية إصلاحها وتحديد مراحلها وخطواتها، بإذن الله.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"