19-نوفمبر-2019

سلفا كير وريك مشار (Getty)

يمثل الموقف التصعيدي الجديد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية تجاه أطراف النزاع في الحكومة والمعارضة بجنوب السودان، واحدًا من أبرز التطورات التي شهدتها العلاقة بين البلدين، إذ أن واشنطن ظلت تراقب الاوضاع في البلاد عن كثب منذ نيلها الاستقلال، وهي اللحظة التي بدأت فيها العلاقة تتحول من إطارها التحالفي إلى الجفوة والنفور إن لم تصل مرحلة العداوة بعد، فأمريكا كانت ترى أن مساهماتها في دعم الدولة الوليدة سياسيًا واقتصاديًا، يجب أن تنعكس في مشروعات تنموية ملموسة وبناء مؤسسات سياسية حقيقة، لكن هذا لم يحدث، إذ استغل الزعماء السياسيون من قادة حرب التحرير هذا الدعم السخي لتمكين أنفسهم حيث استشرى الفساد وسادت المحسوبية والطائفية القبلية، ونتيجة لذلك تفاقمت الصراعات داخل قيادة الحزب الحاكم حول من يتولى زمام الأمور، بسبب الفشل في تحقيق تطلعات المواطنين وتخييب آمال الشركاء الدوليين وأولهم بطبيعة الحال الولايات المتحدة الأمريكية.

منذ البداية لم تكن إدارة الرئيس ترامب داعمة لاتفاق السلام المنشط الذى جري توقيعه في سبتمبر 2018 بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا

منذ البداية لم تكن إدارة الرئيس ترامب داعمة لاتفاق السلام المنشط الذى جرى توقيعه في سبتمبر 2018 بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بسبب تشكيكها في قدرة الطرفين في الحكومة والمعارضة على تنفيذ بنوده على أرض الواقع، خاصة بعد أن انهارت الاتفاقية الأولى التي تم التوقيع عليها في آب/أغسطس من العام 2015، بسبب هشاشة الترتيبات الأمنية وغياب الإرادة السياسية لدى الأطراف الرئيسية، وبالرغم من ذلك ظلت واشنطن تضغط على الأطراف الموقعة بضرورة تنفيذ ما توصلوا إليه مع الالتزام بتوفير المساعدات الإنسانية، وقد كانت حجتها في ذلك هو أنها لن تقدم أي مساعدات مالية لحكومة فاسدة يمكنها أن تقوم بتجنيب أي تمويل للعملية السلمية لصالح القيادات الفاسدة. وتستند واشنطن في ذلك إلى العديد من التقارير التي تكشف عن تلك الممارسات والصادرة عن منظمة كفاية ومجموعة (ذا سنتري) التي يترأسها نجم السينما الهوليوودي جورج كلوني، ولم تكتف بذلك بل مضت لأبعد من ذلك خلال فرضها لعقوبات فردية على عددًا من قادة الجيش والمسؤولين الحكوميين الذين قالت أنهم يعرقلون من تنفيذ العملية السلمية في جنوب السودان، الشيء الذي جعل السلطات الحكومية في جوبا تتهمها بالسعي للإطاحة بها عبر ما ظلت تتخذه من سياسات ومواقف.

اقرأ/ي أيضًا: المؤسسات الإعلامية والصحفية.. مهام المرحلة وصلاحيات الوزير

يبدو أن الإدارة الأمريكية كانت تنظر لما هو أبعد من المعطيات الراهنة في علاقتها مع جنوب السودان، خاصة بعد اندلاع الحرب الأخيرة في كانون الأول/ديسمبر 2013، حيث ظلت تتحدث على الدوام عن علاقتها القوية مع الشعب الذي وعدته بعدم التخلي عنه، حيث ترى أن أي تسوية لن تنتهي بمحاسبة المتورطين في جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان لن تكون ذات جدوى، لذلك أعلنت عن دعمها لإنشاء المحكمة الهجين التي نصت عليها اتفاقية السلام  بمبلغ 3.50 مليون دولار أمريكي، وحتى الآن لم يتم تحريك هذا الملف من قبل الاتحاد الافريقي كما لم تقم الأطراف، خاصة الحكومة، باتخاذ الخطوات المطلوبة منها لتحريكه.

تريد واشنطن أن يتم تكوين الحكومة في موعدها دون أي تأجيل، لأنها ترى أن دخول جميع الأطراف الموقعة على اتفاق السلام في الحكومة الجديدة قد يضيق من فرص الاعتداء على المال العام ونهب موارد الدولة الذي بدأ يتزايد بوتيرة ملحوظة في الآونة الأخيرة خاصة في قطاعات النفط والتعدين، فهي تبني استراتيجيتها مع بقية بلدان الترويكا على أن تبدأ الفترة الانتقالية لتشرع بالدفع في اتجاه إنجاز الإصلاحات المطلوبة وتحقيق المحاسبة والمساءلة وتهيئة البيئة لإقامة انتخابات عامة بنهاية الفترة الانتقالية حيث سيتاح للجنوبيين اختيار القيادة المناسبة التي يرونها، وإما التجهيز للسيناريوهات البديلة الأخرى المتمثلة في انهيار اتفاق السلام قبل بلوغ نهاية الفترة الانتقالية وعودة القتال مجددًا بين الحكومة والمعارضة، وهي السيناريوهات التي اضطرت واشنطن نفسها للحديث عنها بشكل دبلوماسي في التصريحات الأخيرة المنسوبة لوزارة الخارجية والتي أشارت فيها إلى أنها ستقوم بالتنسيق مع المجتمع الدولي والبلدان المحيطة بجنوب السودان في الإقليم لاتخاذ الخطوات المناسبة التي تضمن تحقيق السلام وتعيد الاستقرار لجنوب السودان، لكنها لم تكشف عن المزيد فيما يتعلق بتلك الاجراءات الجديدة.

بدون توفر الإرادة السياسية هذه المرة فإن السيناريوهات التي وضعتها واشنطن المستاءة ستكون سيدة الموقف بلا منازع

الكرة الآن في الحكومة ، لقد بدأ العد التنازلي لمهلة الـ(100) يوم لكن بدون مؤشرات على إمكانية حدوث أي اختراق في ملف الترتيبات الأمنية في الجانب المتعلق بتجميع وتدريب القوات، فقوات المعارضة تهدد بالخروج من مراكز التجميع بسبب انعدام المساعدات اللوجستية من أدوية وطعام ومياه شرب نقية، الشيء الذي يعني عودتها لمواقعها السابقة، وهذا يمثل تهديدًا كبيرًا للعملية الأمنية ولاتفاق وقف إطلاق النار الذي يمكن أن ينهار بالتماطل وعدم الرغبة في التنفيذ، عدا عن قضية الولايات التي تمثل العقدة الرئيسية للعملية السلمية بكاملها، فبدون توفر الإرادة السياسية هذه المرة فإن السيناريوهات التي وضعتها واشنطن المستاءة ستكون سيدة الموقف بلا منازع.

 

اقرأ/ي أيضًا

جنوب السودان.. حرية الصحافة في مواجهة تكميم الأفواه

اللجان التمهيدية لاستعادة النقابات.. خطوات صحيحة وتحديات ضخمة