بما أن التدمير جزء من اهداف الحرب ووسائلها في تحييد القوة الضاربة للعدو باستهداف ما يعرف بالأهداف الاستراتيجية، وهي ما يشكل الدعم اللوجستي لاستمرار دعم القوة، ولقطع خطوط الإمداد التي يتم استهدافها عسكريًا، إلا أن هذا يفهم في إطار حرب لها طابع آخر من بين مستويات الحرب، من حرب بين الدول، والحروب أو الصراعات الداخلية للدولة الواحدة. وفي الحالة السودانية حيث تستمر الحرب لما يقرب من العامين، بلغ فيها مستوى الدمار ما لم يسلم منه كل ما يعرفه القانون الدولي بـ"الأعيان المدنية"، والمفترض أنها خارج دائرة الاستهداف، بحسب تعريفها ككل هدف غير عسكري. الحرب التي تفجرت في السودان في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2015 طالت آثارها المدمرة كافة مؤسسات الدولة فأخرجت منظومتها الإدارية والخدمية خارج الخدمة.
التدمير الذي أتى على الجامعات والمتاحف والمؤسسات العامة جعل الكثير من المحللين يرجحون بأنه استهداف لرمزية الدولة السودانية ومحو أرشيفها الوطني، تنفيذًا لمخططات دولية تتعدى قدرة الجهات المنفذة للتدمير
وإذا كانت البنى التحتية، بما تشمله من طرق ومبانٍ ومستودعات ومصادر الطاقة الحيوية والسدود وشبكات الكهرباء والاتصال، ومن دونها لا تقوم ولا وجود للدولة، فاستهدافها يعني في سياق الحرب الشاملة تجريد الدولة ومواطنيها من الحق في الحياة وفرض استسلام بالقوة الغاشمة، كاستخدام الولايات المتحدة للقنبلة الذرية ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية. فالحرب الجارية وما أحدثته من شرخ لم يقتصر على الأضرار الهامشية (Collateral Damages) في بنية الدولة، بل ما حدث ويحدث سيؤدي حتمًا إلى إفراغ السودان من مقدراته الاستراتيجية، وهي مشروعات تعدى بعضها المائة عام، وستكون كلفة استعادتها أو تأهيلها قد تحتاج إلى مقدرات يصعب توفرها في المدى القريب.
ومنذ أن انطلقت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في تمردها، مع تمددها الجغرافي من وسط البلاد إلى أقصى غربها، كانت البنية التحتية المتهالكة جزءًا من أهداف الحرب، تماشيًا مع ما أحدثته الحرب من فوضى ونهب وسلب، بالإضافة إلى الانتهاكات الإنسانية الواسعة الأخرى المرتكبة بحق المواطنين من تقتيل واغتصاب، وقائمة من الجرائم التي ترقى في التعريف القانوني إلى جرائم ضد الإنسانية. ولأن الخسائر البشرية لا تُقارن قياسًا بالخسائر المادية، إلا أن نتائج تدمير البنية التحتية لها عواقب على المدى الطويل، مؤداها الكوارث التي تحدثها وما ينتج عنها من قتل غير مباشر لا يقل أهمية عن الحرب نفسها. فالتدمير الذي أتى على الجامعات والمتاحف والمؤسسات العامة جعل الكثير من المحللين يرجحون بأنه استهداف لرمزية الدولة السودانية ومحو أرشيفها الوطني، تنفيذًا لمخططات دولية تتعدى قدرة الجهات المنفذة للتدمير.
إن العواقب التنموية التي تنتج عن تدمير البنية التحتية يمكن أن تكون أخطر مما تحدثه في الآن من انقطاع للتيار الكهربائي والمياه. فالحرب التي ستطول، إلى جانب فقدان الوظائف والركود الطويل والعبء الاقتصادي غير المسبوق على الدولة، ستخلق حتمًا توترات قد تتحول إلى رد فعل سياسي واجتماعي يفاقمه انهيار بنية الدولة. إن ما يمثله استهداف البنى التحتية وما تم في السودان خلال شهور الحرب يعكس مدى غياب الوعي بأهمية هياكل الدولة وموقع المواطن من حرصه على رموز بلاده التي يجب أن تظل محايدة. وهو جزء من فجوة سياسية أسهمت فيها المكونات السياسية على مدى تاريخها السياسي الطويل، على مبدأ القومية والمواطنة والانتماء والتفريق بين الخاص والعام.
مثلما سقط ضحايا مدنيون في الحرب نتيجة للمعارك في مناطق سكانية واحتلال الدعم السريع للمنازل والمؤسسات المدنية، فإن هذه الأماكن (الأعيان المدنية) أصبحت جزءًا من المعركة حين استخدمت كتحصينات دفاعية للطرف الذي فقد قواعده
فمثلما سقط ضحايا مدنيون في الحرب نتيجة للمعارك في مناطق سكانية واحتلال الدعم السريع للمنازل والمؤسسات المدنية، فإن هذه الأماكن (الأعيان المدنية) أصبحت جزءًا من المعركة حين استخدمت كتحصينات دفاعية للطرف الذي فقد قواعده. وشكل هذا المنحى في الحرب شرطًا أساسيًا في قائمة التفاوض بين الطرفين (الخروج من منازل المواطنين). واحتلال المنازل ونهبها بالشكل الذي تم فجر غضبًا شعبيًا اختلطت فيه المشاعر مع الانتقام وزادت من حدة المقاومة الشعبية الرافضة لقوات الدعم السريع.
ولكن التطور الأخطر في استهداف البنية التحتية بدخول الطائرات المسيَّرة في استهداف المدن البعيدة، ومؤخرًا ضرب مواقع استراتيجية كما حدث في سد مروي في أقصى الشمال وخطوط إمدادات الطاقة في الشرق، وما يحدثه الطيران من قصف في المدن من دمار للمباني، وقبلها كوبري شمبات في العاصمة الخرطوم وخزان جبل أولياء وغيرها من المواقع. بذلك تكون الحرب قد اتجهت نحو مسار آخر، ليس على مستوى التفريق بين الأهداف العسكرية والمدنية فحسب، بل في التدمير المقصود لتعطيل إمدادات الكهرباء والمياه وتهديد القطاعات الصحية الحيوية، مما تبقى للمواطنين من خدمات. إن هذه المشروعات الاستراتيجية وغيرها من قطاعات ملك الشعب السوداني، أو هكذا يجب أن يفهم المتحاربون، لا تدخل ضمن أجندات الحرب أيًّا تكن المبررات التي تسوقها الأطراف، فما تشكله هذه البنى التحتية لبلد مثل السودان الذي تعاني أجزاؤه من تقطيع أوصال، سيقعد بالبلاد على المدى الطويل.
الاستهداف الموجه ضد البنى التحتية ضاعف من الشعور الوطني على الرغم من حالة الانقسام التي خلفتها الحرب بين مكونات الشعب السوداني
ما هو الموقف السياسي بما تمثله حتى الأطراف التي تدعو وتعارض الحرب، وبالطبع الحكومة القائمة، من استهداف البنية التحتية على هذا النحو؟ ما يلاحظ أن عقب هذا الاستهداف خرجت إدانات واسعة من كل الأطراف، بما فيها قادة في تنسيقية القوى الديمقراطية (تقدم). وهو مبدأ، أيًّا يكن الموقف مما يجري بالبلاد، يعبر عن طرح مسؤول، وإن لم يكن تعبيرًا عن رفض لفعل لا تقتصر نتائجه على الحكومة القائمة وحدها. وبهذا يكون الاستهداف الموجه ضد البنى التحتية قد ضاعف من الشعور الوطني على الرغم من حالة الانقسام التي خلفتها الحرب بين مكونات الشعب السوداني. ففي السياق العسكري للحرب، لا يمكن عد استهداف البنية التحتية انتصارًا في حرب تجري في الداخل وصراع يقوم على استهداف مشتركات الشعب السوداني، فإن الخاسر هو السودان شعبًا ودولة ومستقبلاً، وليس تشكيلات عسكرية تسعى إلى تحقيق مطامحها في السلطة عبر تدمير أهم ركائز الدولة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"