01-نوفمبر-2019

تجمع المهنيين السودانيين

عرف السودان العمل النقابي منذ أمد بعيد، وبدأ النشاط العمالي بالبلاد في حقبة الاستعمار. فكان قد بدأ أول إضراب لعمال مناشير الغابات في عام 1908 للمطالبة بتحسين الأجور وبيئة العمل، وتدرج وصولًا إلى العام 1947 حيث كانت بداية تأسيس هيئة شؤون العمال في السكك الحديد. وبعدها تم الضغط على الإدارة الاستعمارية لتعترف بالحق في التنظيم النقابي، وصدر أول قانون للعمل والعمال عام 1948 ولائحة تسجيل النقابات في نفس العام، وبذلك اكتسبت الحركة النقابية السودانية شرعيتها واستمدت قوتها لينشأ أول مؤتمر عمالي لعموم السودان في 18 أيار/مايو 1949.

طوال فترة الحكم الوطني ظلت النقابات تلعب دورًا بارزًا في التغيير السياسي الذي شهدته البلاد

قيادة التغيير وعقوبات الانقلابات

وطوال فترة الحكم الوطني ظلت النقابات تلعب دورًا بارزًا في التغيير السياسي الذي شهدته البلاد، وكان دورها حاسمًا في ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964 عبر النظيم النقابي "جبهة الهيئات"، وانتفاضة نيسان/أبريل 1985 من خلال تنظيم "التجمع النقابي"، وأخيرًا ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018 حيث لعب تجمع المهنيين دورًا حاسمًا في قيادة الثورة حتى انتصارها، ومثلما كانت النقابات المهنية رائدة في صناعة التغيير كانت ايضًا أول ضحايا التغيير السياسي الذي يأتي عبر الانقلابات العسكرية، وهو الأمر الذي ظل يقود إلى حلها أو تجميدها ومصادرة أموالها وممتلكاتها وتشريد وملاحقة قادتها ومنسوبيها، شأنها شأن الأحزاب السياسية، فالحركة النقابية في السودان ضاربة في القدم وشديدة التأثير.

اقرأ/ي أيضًا: بسبب الجوع.. معارضة جنوب السودان تترك معسكرات التدريب!

موالاة النقابات والاتحادات للنظام البائد

 وفي حقبة حكم الإنقاذ تسببت موالاة النقابات والاتحادات المهنية للنظام البائد، في نشوء كيانات موازية ذات صبغة معارضة، بعضها هو في الأصل النقابات والاتحادات الشرعية التي قام النظام بحلها، مثل (لجنة أطباء السودان، ونقابة أطباء السودان الشرعية، ولجنة المعلمين، وشبكة الصحفيين السودانيين، وتحالف المحامين الديمقراطيين وغيرها)، وهي الأجسام التي شكلت لاحقًا تجمع المهنيين السودانيين الذي تبنى الاحتجاجات التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير.

عاصفة القرار رقم (20)

وفي الرابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر أعلنت وزارة العدل ممثلة في مسجل تنظيمات العمل، عن انتهاء دورة الاتحادات المهنية للأعوام 2014-2019، وأصدر المسجل عوض جعفر قرارًا تتحول بموجبه اللجان التنفيذية السابقة إلى لجان تمهيدية للقيام بأدوار الترتيب لعقد الجمعيات العمومية والانتخابات، وطالب القرار اللجان التمهيدية والتي سيضاف إليها أربعة أشخاص يعينهم المسجل، بالبدء في إجراءات المراجعة عبر تجهيز الدفاتر والسجلات، وحدد القرار العشرين من كانون الثاني/يناير القادم موعدًا نهائيًا لانتخاب اللجان الولائية، والثلاثين منه موعدًا نهائيًا للاتحادات العامة.

غير أن القرار أشعل معركة كلامية ساخنة بين الحكومة والكيانات المهنية في السودان عقب إصدار مسجل تنظيمات العمل بوزارة العدل قرارًا بحل الاتحادات والنقابات المهنية وتشكيل لجان تمهيدية تعمل لإجراء انتخابات خلال ثلاثة أشهر، حيث أعلنت لجنة مبادرة استعادة نقابة الصحفيين، وشبكة الصحفيين السودانيين، وهما جسمان معارضان للاتحاد العام للصحفيين السودانيين الموالي لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، عن رفضهما في بيانين منفصلين قرار المسجل لتعارضه مع شعارات الثورة والتغيير.

توحد صحفي مضاد للقرار

وقالت لجنة مبادرة استعادة النقابة إن قرار المسجل يخالف الوثيقة الدستورية ومهام الفترة الانتقالية، التي نصت على تفكيك كل أشكال التمكين لحزب النظام المعزول، ورأت اللجنة في بيانها أن القرار الصادر عن المسجل يكرس لقانون النقابات الذي سنه النظام السابق، ويضرب عرض الحائط بكل مطالب تغيير هذا القانون، ويجعله شرعيًا عوضًا عن الغائه واستبداله بآخر ديمقراطي يفضي الى تأسيس كيانات نقابية معبرة عن قواعدها بشكل مهني حر، وطالبت اللجنة وزيرة العمل بإصدار قرار بحل النقابات والاتحادات وإعداد مشروع قانون نقابات فئوية تمهيدًا لإجازته.

وفي الوقت ذاته اعتبرت شبكة الصحفيين السودانيين قرار المسجل لا ينتمي إلى أهداف وشعارات الثورة، بل يصب في إتجاه الثورة المضادة التي تسعى نحو السيطرة مجددًا على النقابات المهنية،  وأضافت الشبكة "نرفض هذا القرار المعيب شكلًا وموضوعًا، ويجب أن يقابل بالحسم المطلوب، ونرفض إجراء أي انتخابات وفقا لقانون الاتحادات المهنية للعام ٢٠٠٤ المعيب، والمحتشد بالثغرات القانونية المصممة لتمكين منتسبي النظام البائد من السيطرة على الاتحادات". ونوهت الشبكة إلى أن التساهل مع عناصر النظام المعزول، والبطء في التعامل مع ملفات الفساد المالي والإداري، هو ما أغرى منسوبي النظام السابق للتلاعب ومحاولة الالتفاف على مطالب ثورة شعبنا، وشددت على إجراء مراجعة شاملة لحسابات هذه الاتحادات المالية بواسطة سلطة المراجع العام لجمهورية السودان، وطالبت بإقالة المسجل لجهة أن مواقفه السابقة خلال الثورة كشفت عن انحيازه السافر للنظام البائد ونهجه المعادي للثورة.

ماهر أبوالجوخ: عودة النقابات يستوجب تحريرها من تمكين وهيمنة عناصر النظام البائد المستمرة لثلاثة عقود

تفكيك التمكين السياسي والاقتصادي والأمني

وفي ذات المنحى يرى الصحفي ماهر أبوالجوخ أن الحديث عن عودة النقابات يستوجب في المقام الأول تحريرها من التمكين والهيمنة التي تعرضت لها خلال العقود الثلاثة لحكم الإنقاذ، التي حولتها بفضل القوانين والتدخلات السياسية والأمنية لأحد واجهات الحزب الحاكم، وما ينطبق على النقابات المهنية والعمالية ينسحب بذات القدر على الاتحادات الفئوية للطلاب والشباب والنساء، ويؤكد أبو الجوخ بإن تفكيك التمكين السياسي والاقتصادي والأمني هو أحد مهام الفترة الانتقالية وفقًا للوثيقة الدستورية.

اقرأ/ي أيضًا: سودانيون في المعتقلات المصرية.. معاناة يومية ومصائر غامضة!

 ويقول أبوالجوخ إن العمل النقابي سابقًا من بين أعلى درجات التمكين للنظام البائد، لذلك فإن تفكيكه بات واجبًا أساسيًا. ولعل نقابات واتحادات النظام البائد استفادت من توتر العلاقة ما بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير ما منحها سانحة لالتقاط أنفاسها منذ التوقيع على الوثيقة الدستورية، ولكنها منذ صدور القرار رقم (20) وما تلاه من ردود أفعال قادت لإقالة مسجل تنظيمات العمل، فإن مسألة تفكيكها باتت مسألة وقت واجراءات لا أكثر، إذا يأمل قطاع عريض من المهنيين تأسيس مؤسسات نقابية حقيقية وفاعلة.

ويرى أبوالجوخ أنه يجب التوافق على قانون نقابات ديمقراطي ينص على ديمقراطية شكل التنظيم النقابي، وهو ما يعطي النقابات والأجسام المهنية مرونة أوسع في ما يتصل بحقها في إختيار الشكل التنظيمي الاكثر تعبيرًا عن مصالح قواعدها، دونما تقييد لهذا الحق بشكل واحد للتنظيم النقابي.

تحركات لاستعادة النقابات

وفي ذات السياق يرى المحامي والناشط الحقوقي حاتم إلياس أن نقابة المحامين على سبيل المثال يختلف هيكلها وتكوينها وقانونها عن النقابات الأخرى، من حيث كونها نقابة مهنية الانتساب إليها يحتاج إلى شروط أكاديمية لا تتوقف عند نيل المحامي لبكالوريوس القانون، بل يجب أن يجتاز المحامي امتحان مهنة تنظيم القانون (المعادلة) ويخضع للتدريب ثم من بعد ينتسب للنقابة التي تمنحه حق ممارسة المحاماة، وبالنسبة لحاتم فأن الإشكالات التي تواجه نقابة المحامين هي مثل النقابات المهنية الأخرى، تتعلق بسجل المهنة.

وبحسب إلياس فإن الكثير من المحامين المعارضين للنقابة الحالية يتهمونها بأنها من موقع تبعيتها للنظام البائد، وللحفاظ على هيمنة وسيطرة عناصر النظام على النقابة، قامت بالتدخل في سجل المهنة، وأدخلت عناصر لا تنتمي للمحاماة بغرض ترجيح كفة أصوات منسوبيها في التنافس الانتخابي. لذا يطالب المحامون بتنقيح السجل، وبالفعل هنالك دعوى ستقدم للقضاء لمراجعة السجل المهني لنقابة المحامين، كما أن الأمر الآخر يتعلق بالمحامي الممارس، فكثير من الذين تخرجوا بشهادة القانون واجتازوا المعادلة انتموا لمهن أخرى كـ(محاسبين أو مدراء في شركات أو ضباط في جهاز الأمن وغيرها من المهن الأخرى)، وهو أمر يخل بشرط الممارسة المهنية لدى المعترضين. ولكن لا يتيح الطعن القانوني في العملية الانتخابية، سهولة معرفة المحامي الممارس فهو أمر يحتاج لإثبات ومع العددية المتنامية للمحامين تبرز صعوبة مكافحة الأمر.

وكشف إلياس عن وجود حركة كبيرة لتجميع توقيعات من المحامين بغرض سحب الثقة من النقابة الحالية، لكنه عاد وقال إنها حتى الآن في الخرطوم فقط، وهي مجرد مبادرة. وتابع "لكن في ظني أنه بعد انتهاء دورة هذه النقابة ستكون هنالك معركة انتخابية شرسة، وغالبًا لن ينجح فيها المؤتمر الوطني لأنه طيلة فترته في النقابة كان يعتمد على دعم السلطة، وشراء الولاءات في واقع مهني يشكو فيه المحامين من ظروف مهنية اقتصادية قاسية"، وتوقع إلياس أن تكون هنالك معركة شرسة سيحاول أن يثبت فيها حزب المؤتمر الوطني أنه ما يزال الحزب المهيمن والمسيطر على النقابة، بينما ستدفع موجة الثورة معنويًا تنظيمات المحامين المعارضة والمدفوعة برغبة استعادة منبر النقابة للتحرك بقوة كبيرة، للعمل على استرداد منبر نقابة المحامين. وبالنسبة لإلياس فإن هذا الأمر لن يتوفر إلا إذا تم تجويد عمل التحالف الديمقراطي للمحامين، وبحسب إلياس فإنه ربما يتشكل واقع جديد يقود إلى ظهور تنظيمات تحالفية جديدة للمحامين، تقلب الطاولة على الجميع، وعاد إلياس وأكد أن الجميع في انتظار انتهاء هذه الدورة ليروا ما ستسفر عنه الانتخابات القادمة.

معركة استعادة النقابات وإعادة البناء النقابي على الأساس الفئوي، هي معركة أساسية لبناء وحماية الديمقراطية

مشاريع قانون ديمقراطي قيد الدراسة

فيما يرى الدكتور أحمد الشيخ رئيس نقابة الأطباء الشرعية، أن معركة استعادة النقابات وإعادة البناء النقابي على الأساس الفئوي، هي معركة أساسية لبناء وحماية الديمقراطية، وبالنسبة للشيخ فإن القوانين التي ورثناها من النظام السابق هي المعوق الأكبر أمام ذلك، فنظام البشير البائد وضع قوانين نقابة المنشأة لمحاربة وتفكيك النقابات الوطنية، غير أن النقابات استمرت في محاربة هذه القوانين والنضال من أجل الاحتفاظ بتشكيلها الفئوي مثل (نقابة الأطباء الشرعية ولجنة المعلمين وشبكة الصحفيين وغيرها من الكيانات التي توحدت في تحالف تجمع المهنيين منذ 2013)، وأكد الشيخ أن نقابة الأطباء الشرعية حاليًا تقوم بإعداد دستورها الجديد على الأساس الفئوي، والإعداد لجمعيتها العمومية لانتخاب لجنة تنفيذية جديدة في المرحلة القادمة، كما يقوم تجمع المهنيين بدراسة عدد من المقترحات لقانون نقابات بديل يسمح بقيام النقابات الوطنية الديمقراطية على الأساس الفئوي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الشيوعي" يطالب بحل "الوطني" وبمحاكمات "ثورية" لقتلة الشهداء

مواكب لحراسة مكتسبات الثورة.. الأولوية للسلام ومحاسبة الفاسدين!