استعادة مدينة أم روابة.. ذكريات أليمة وأحلام الرجوع
13 فبراير 2025
حين غادرت جهاد مدينتها أم روابة، كانت تحمل في قلبها جرحين: واحدًا لفقدان والدها، والآخر لوداع مدينتها التي راهنت على العودة إليها يومًا ما. والدها، الذي كان رائدًا في الجيش السوداني، قضى شهورًا في سجن سوبا بعد أسره على يد قوات الدعم السريع. وبعد جهود مضنية، تمكنت جهاد من إخراجه وإعادته إلى أم روابة، لكنه لم يمكث طويلًا. تتذكر تلك اللحظة قائلة: "تمكنتُ بعد عناء من إخراج والدي من الخرطوم وإعادته إلى أم روابة، لكنه توفي في اليوم نفسه الذي وصل فيه. وصل صباح الإثنين في الساعة الثامنة، وفارق الحياة عند التاسعة مساءً. لم يحظَ بفرصة للراحة في بيته بعد كل ما عاناه".
تُعرف مدينة أم روابة بمركزها التجاري المهم وسوقها الكبيرة للحبوب الزيتية والكركديه، كما أنها تشكّل نقطة التقاء للطرق البرية والسكك الحديدية التي تربط ولايات غرب السودان وجنوب كردفان بالخرطوم وميناء بورتسودان
وتقع مدينة أم روابة في ولاية شمال كردفان، على ارتفاع 450 مترًا فوق سطح البحر، وتبعد حوالي 301 كيلومتر عن العاصمة الخرطوم. تُعرف بمركزها التجاري المهم وسوقها الكبيرة للحبوب الزيتية والكركديه، كما أنها تشكّل نقطة التقاء للطرق البرية والسكك الحديدية التي تربط ولايات غرب السودان وجنوب كردفان بالخرطوم وميناء بورتسودان. ويُطلق عليها "عروس النيم" لكثرة أشجار النيم التي تزين شوارعها.
وقد سيطرت قوات الدعم السريع على المدينة في اوائل آب/ أغسطس من العام 2023 جاعلة من المدينة نقطة إستراتيجية لإمداد قواتها في الخرطوم ووسط السودان ككل، ونقطة محورية تربطها بولايات غرب السودان كذلك.
معاناة طاحنة
رحلت جهاد عن المدينة في ظروف قاسية، حيث كان الأمن غائبًا، والتهديدات تحيط بكل من بقي هناك. تتذكر كيف كانت الحياة في أم روابة "شبه مستحيلة"، فالخوف من التعرض للانتهاكات أو "الشفشفة" – كما تصفها – جعل البقاء أمرًا لا يطاق. المرض انتشر بين الناس، خاصة الملاريا وحمى الضنك، دون أي علاج أو رعاية طبية، ومع انعدام مصادر الدخل، لم يكن هناك خيار سوى الخروج بحثًا عن عمل يعين الأسرة الكبيرة التي بقيت خلفها.
قبل استعادة الجيش السيطرة على أم روابة، كانت الأوضاع قد وصلت إلى الحضيض، انقطع التيار الكهربائي لشهور يصعب حصرها وتوقفت الآبار بالمدينة لارتباطها بالكهرباء، شهدت الأسواق المحلية إضطرابًا بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة، إلى جانب انقطاع تام لشبكات الاتصالات والإنترنت منذ اوائل كانون الأول/ديسمبر 2024، مما جعل الحياة أكثر قسوة.
وفي هذا السياق، تقول تماضر وهي متطوعة من المدينة: "تدهورت الأوضاع الإنسانية في المدينة بشكل كارثي، لم تستطع المنظمات توفير اي دعم للمدينة المنسية" حسب وصفها.
مع عزلة المدينة عن الضوء الإعلامي، تفاقمت الأزمة الإنسانية، حيث لم يكن هناك من يوصل صوت الأهالي أو يوثق حجم معاناتهم، ما جعل الوصول إلى احتياجاتهم الأساسية من غذاء ودواء أمرًا بالغ الصعوبة
ومع عزلة المدينة عن الضوء الإعلامي، تفاقمت الأزمة الإنسانية، حيث لم يكن هناك من يوصل صوت الأهالي أو يوثق حجم معاناتهم، ما جعل الوصول إلى احتياجاتهم الأساسية من غذاء ودواء أمرًا بالغ الصعوبة. وتضيف تماضر في حديثها لـ"الترا سودان": "لم تكن هناك أي معلومات دقيقة عن الجهود التي يمكن أن تُبذل لإنقاذ الناس، وكأن المدينة بأكملها قد اختفت من خارطة الأولويات الإنسانية، باستثناء بعض الجهود الفردية من متطوعي المدينة".
وسط هذه الظروف القاسية، وجهت تماضر نداءً عاجلًا للجهات الإنسانية والمنظمات المحلية، مؤكدة أن المبادرات الشبابية، مثل التكايا، كانت تعمل بصعوبة في ظل انعدام الموارد. كما دعت الجهات الأمنية والعسكرية للمساهمة بأي طريقة ممكنة، قائلة: "حتى لو استطعنا الوصول لشخص واحد فقط هناك، يمكننا العمل معه لتوفير الاحتياجات الضرورية".
اليوم، وبعد استعادة الجيش السيطرة على المدينة، يأمل الأهالي أن يجدوا من يسمع أصواتهم، ويمد لهم يد العون بعد شهور من المعاناة والعزلة.
عملية عسكرية ممرحلة
وبالنسبة لجهاد، فإن الخروج من أم روابة لم يكن مجرد هروب، بل كان رهانًا على العودة. فقد كانت جهاد تتابع الأخبار بلهفة، تترقب أي تقدم عسكري للجيش السوداني، وتتواصل مع بعض الضباط الذين تعرفهم بحكم انتماء والدها للمؤسسة العسكرية.
وفي السياق، وفقًا لمصدر عسكري من متحرك الصياد تحدث إلى"الترا سودان"، استأنفت العمليات العسكرية في 1 كانون الأول/ديسمبر 2024، عندما تحركت قوات الجيش من منطقة ود عشانا باتجاه مناطق سيطرة الدعم السريع. في منطقة الغبشة، على بعد 22 كيلومترًا شرق أم روابة، خاض الجيش معركة ضد المليشيا انتهت بانسحاب الأخيرة وتكبدها خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد.
استمر الضغط العسكري، وخلال 23 كانون الثاني/يناير، تمكن الجيش من تمشيط أكثر من 70 قرية حول الغبشة، متقدمًا إلى أم خيرين على بعد أقل من 7 كيلومترات من أم روابة. "العقبة الأساسية أمام الجيش كانت الألغام التي زرعتها المليشيا، مما استدعى تدخل فرق فنية لإزالتها تحت غطاء جوي ومدفعي"، حسب تعبيره.
بعد 18 شهرًا من سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة أم روابة، أعلنت القوات المسلحة السودانية، استعادة السيطرة على مدينة أم روابة بعد معارك ضد قوات الدعم السريع
وفي صباح الخميس 30 كانون الثاني/ يناير، اقتحم الجيش السوداني المدينة من المحور الشرقي، بينما شنت قوة أخرى من الفرقة 10 أبوجبيهة هجومًا متزامنًا من المحور الجنوبي، مما أدى إلى تطويق المليشيا وإجبارها على الانسحاب باتجاه مدينة الرهد.
وفي مساء نفس اليوم، بعد 18 شهرًا من سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة أم روابة، أعلنت القوات المسلحة السودانية، استعادة السيطرة على مدينة أم روابة بعد معارك ضد قوات الدعم السريع، مؤكدة تكبيدها خسائر فادحة.
وعندما جاء الخبر أخيرًا إلى جهاد، لم تستطع إخفاء فرحتها التي عبرت عنها قائلة: "تحرير أم روابة كان أعظم خبر بالنسبة لي. أخيرًا عادت مدينتنا من جديد!".
دلالات استراتيجية
في هذا الصدد، يرى أكرم علي، المهتم بالشأن السياسي، أن استعادة الجيش السوداني لمدينة أم روابة تأتي ضمن "خطة عسكرية شاملة تهدف إلى إنهاء التمرد في البلاد عبر مراحل متتابعة". ويشير في حديثه لـ"الترا سودان" إلى أن هذا التقدم يمنح الجيش ميزة استراتيجية حاسمة، إذ "يتيح له ربط قواته في جنوب كردفان بالفرقة المتمركزة في أبوجبيهة، مما يفتح خط إمداد جديد عبر الطريق القومي بين شمال وجنوب كردفان، ويعزز تحركاته العسكرية".
إلى جانب الأهمية العسكرية، تمثل أم روابة نقطة حيوية على الطريق القومي الذي يربط كوستي بالأبيض، ما يوفر للجيش قدرة لوجستية أفضل.
ويضيف "تحرير المدينة يمهد الطريق أمام الجيش لفتح جبهة قتال جديدة في دارفور، خاصة في الفاشر أو الضعين، وهو ما قد يشكل ضربة قوية للمليشيا التي تسعى للسيطرة على الفاشر وإعلان حكومة في الإقليم".
كما يرى أن السيطرة على أم روابة "ليست مجرد انتصار عسكري، بل مؤشر واضح على تراجع المليشيا عسكريًا وسياسيًا، وهو ما قد يساهم في استعادة الحياة الطبيعية وعودة النازحين إلى المدينة وقراها المحيطة"، على حد وصفه.
أحلام الرجوع
مع دخول الجيش إلى أم روابة، علت أصوات التكبير في شوارع المدينة، وخرج السكان لاستقبال القوات المسلحة رغم الدمار الذي خلفته الحرب والمعاناة الإنسانية. أحد المواطنين الذين بقوا في المدينة خلال فترة سيطرة قوات الدعم السريع عبّر عن مشاعره قائلًا: "لا أصدق أننا تحررنا أخيرًا؛ عشنا شهورًا من الخوف، ولم نكن نعرف متى سينتهي هذا الكابوس".
أما النازحون، فقد استقبلوا خبر استعادة مدينتهم بحماس. تقول إحدى المواطنات اللائي اضطررن إلى مغادرة أم روابة نحو الأبيض: "سنعود إلى أم روابة، بلا خوف أو إرهاب أو ذل". وتضيف بحماس: "نحن سعداء جدًا، فالحياة في أم روابة هي حياة لنا، بالرغم من كل ما مررنا به من معاناة، ونتطلع لعودة الاستقرار والأمان لمدينتنا".
في الوقت الذي يترقب فيه الأهالي العودة إلى ديارهم، غمرت مشاعر الفرح العديد من المدن السودانية، حيث انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو توثق لحظات الاحتفالات في أماكن مثل الأبيض، العباسية، تندلتي
وفي الوقت الذي يترقب فيه الأهالي العودة إلى ديارهم، غمرت مشاعر الفرح العديد من المدن السودانية، حيث انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو توثق لحظات الاحتفالات في أماكن مثل الأبيض، العباسية، تندلتي، وغيرها من مدن وقرى السودان.
لكن فرحة تحرير أم روابة لم تكتمل بعد بالنسبة لجهاد. فما زالت تفكر في قبر والدها، الذي يمثل لها الرابط الأخير به بعد رحيله. وبينما تتهيأ للعودة إلى المدينة، تحمل معها شيئًا واحدًا لا غنى عنه: "لدي شواهد قبر والدي، أفكر في أخذها معي والعودة لزيارة قبره"، تصف بحرقة.
وفي المحصلة، فالعودة إلى أم روابة بالنسبة إلى جهاد ليست مجرد رحلة إلى مدينة تحررت من قبضة "الدعم السريع"، بل هي رحلة طويلة للقاء أحبائها الذين رحلوا، واستعادة ما تبقى من الذكريات التي تربطها بأرضها وأهلها.
الكلمات المفتاحية

لاجئون سودانيون يبدأون رحلات شاقة لمغادرة مصر إلى بلادهم
مع عودة آلاف اللاجئين السودانيين من المدن المصرية تشهد المعابر حركة واسعة للحافلات وفق متابعة متطوعين في غرف الطوارئ بالولاية الشمالية، بينما رجح عاملون في تنسيق هذه الرحلات عودة نصف مليون لاجئ سوداني خلال هذا العام من مصر إلى بلدهم إثر سيطرة الجيش على العاصمة الخرطوم، وعودة الحياة بشكل متدرج.

في قرى الجزيرة.. الحرمان من الكهرباء يعيد الناس إلى عصر الراديو
في قرية صغيرة غرب ولاية الجزيرة، استعادها الجيش في كانون الثاني/يناير 2025، يحمل أحدهم جهاز راديو قديم، يضخ الحياة فيه من بين المُهملات القابعة في قبو المنزل

السعودية… تمديد تأشيرة زيارات السودانيين بالمملكة
مع اقتراب موسم الحج أجرت وزارة الداخلية بالمملكة العربية السعودية تحديثات على أوضاع الوافدين بشأن المخالفات القانونية. والثلاثاء 23 نيسان/أبريل 2025 حددت السلطات عقوبة تصل إلى السجن ستة أشهر والغرامة 50 ألف ريال لكل شخص استقدم وافدًا انتهت صلاحية تأشيرته ولم يوفق أوضاعه القانونية.

عامان من القتال: المجازر الكبرى والصغرى في حرب السودان
مع اختتام العام الثاني للحرب في السودان، ودخول العام الثالث، شهدت مناطق واسعة من ولاية شمال دارفور مجازر عنيفة ارتكبتها قوات الدعم السريع، التي تسعى لفرض سيطرتها على الإقليم المنكوب بالحروب والمجاعات، في ظل فساد الساسة والقادة.

بعد عامين من الحرب... إلى أين يتجه المشهد العسكري في السودان؟
تدخل حرب السودان عامها الثالث، وسط توقعات باشتداد وتيرة العمليات العسكرية في غرب البلاد وجنوبها، مع انخفاضها في الوسط، مما يؤكد استمرارها، لا سيما في ظل عدم وجود حل سلمي يلوح في الأفق لإيقاف القتال الذي خلف آلاف القتلى وشرد ملايين النازحين واللاجئين.

السودان… أزمة إنسانية واقتصادية على أعتاب حرب ثالثة
على أعتاب العام الثالث من حرب السودان تتنامى التحذيرات من موجات نزوح جديدة، وتفشي المجاعة في مناطق أكثر هشاشة بإقليم دارفور وكردفان، مع احتدام الصراع بين الجيش والدعم السريع خلال الشهر الماضي.

لاجئون سودانيون يبدأون رحلات شاقة لمغادرة مصر إلى بلادهم
مع عودة آلاف اللاجئين السودانيين من المدن المصرية تشهد المعابر حركة واسعة للحافلات وفق متابعة متطوعين في غرف الطوارئ بالولاية الشمالية، بينما رجح عاملون في تنسيق هذه الرحلات عودة نصف مليون لاجئ سوداني خلال هذا العام من مصر إلى بلدهم إثر سيطرة الجيش على العاصمة الخرطوم، وعودة الحياة بشكل متدرج.