12-يناير-2025
قبة مدني السني التي سميت عليها مدينة ود مدني

مدينة ود مدني

ما خطّته الجماهير السودانية، بوصفها ذاتًا فاعلة في التاريخ، وهي تنثال حبورًا وفرحًا وانشراحًا داخل السودان وخارجه، قبل يوم من سقوط مدني وبعد عام بسبب استردادها، يظهر مكانتها لا بوصفها مكانًا مائزًا على صعيد حيوية الجغرافيا الاقتصادية، وإنما باعتبار وقعها الرمزي على المستوى الجمعي، الذي يفوق أهمية موقعها الاستراتيجي في قلب الوسط ويرفده بالدلالات والمعاني.

يشير ناشط سياسي إلى مستوى الانهيار الذي أصاب الدعم السريع وأفقده توازنه

إذ تستأثر المدينة الأثيرة بفيض من المآثر التاريخية على صعيد الثقافة والفكر والرياضة والفن، وبدرجة أعمق على مستوى الاقتصاد والسياسة، وما تقدمه بين هذا وذاك من نماذج ملهمة لتنوع الثراء وثراء التنوع.

سياق التشكل التاريخي ومبعث التفرد:

يؤكد السفير خضر هارون، المثقف الموسوعي، على تفرد مدينة مدني ومسار تطورها عبر التاريخ من مسيد صغير أسسه الشيخ محمد الأمين بن الفقيه مدني في العهد السناري، قبل أن تغدو عاصمة للحكم التركي بقرار من إسماعيل بن محمد علي باشا، لتتحول العاصمة فيما بعد إلى الخرطوم، بقرار من الحكمدار إبراهيم باشا في 1824م. غير أن اللبنة الأساسية في تطور مدينة مدني جاءت بسبب بناء الخزان في مكوار (سنار المدينة) عام 1925، فشكل ذلك انطلاقة حقيقية لتطور مدينة ود مدني، حيث جعلت رئاسة مشروع الجزيرة في ضاحية بركات القريبة منها، وجعلت مدني عاصمة لمديرية النيل الأزرق التي كانت تضم ولايات الجزيرة الحالية والنيل الأبيض وسنار والنيل الأزرق.

ومع انطلاقة مشروع الجزيرة، توافد الناس من كل أنحاء البلاد بل ومن دول الجوار، بحثًا عن العمل في المشروع خارج مدني وحولها، لكنهم اتخذوا المدينة لإقامة الأسر ولتعليم الأبناء، فاتسعت المدينة اتساعًا مذهلًا. وفي عهد عبود، أقيم خزان الروصيرص الذي مكن من تأسيس امتداد مشروع الجزيرة ليشمل مشروع المناقل لزراعة القطن، فاتسعت الرقعة الزراعية وزادت الحاجة للعمال في مجالات تشييد القناطر ومكاتب التفتيش وفتح القنوات في رقعة مترامية الأطراف، لتصبح مدني بؤرة لذلك كله. فكان مقر وزارة الزراعة ووكيلها الهمام ابن مدني، محمود جادين، في مدني نفسها. وارتحل كثيرون من العاصمة الخرطوم إليها، وهذا الاتساع جعلها مدينة للكل لا تغلب فيها عشيرة بعينها ولا قبيلة، وكرام أهلها من المدنيين ذرية مؤسسها في "العشير" و"أم سويقو" عصمتهم روحهم الصوفية من ادعائها لأنفسهم، والضن بها على من توافدوا إليها.

أهدت مدني، بحسب السفير هارون، رموزًا يضيق المجال بذكرهم في الفن: "إبراهيم الكاشف والخير عثمان وثنائي الجزيرة ومحجوب عثمان وأبو عركي البخيت ومحمد الأمين عصام محمد نور والخالدي" وفي الرياضة: "إبراهومة وحمد النيل وسيد سليم ومحمد حامد وسانتو ومحجوب الله جابو وعبدالرحيم الشيخ ومتوكلون" وغيرهم. وفي السياسة خرجت منها فكرة مؤتمر الخريجين من القطب الاتحادي، أحمد خير. لذلك كان فيها للاتحاديين حضور مميز ومنهم: "عبدالرحيم أبو عيسي وأحمد دهب وعثمان عبدالله وعبدالرحيم وقيع الله". مثلما شهدت نفوذًا رعته المهدية الجديدة بقيادة السيد عبد الرحمن المهدي، الذي اختبأ قريبًا منها هربًا من الإنجليز في جزيرة الفيل، منهم: الأمير محمد عبدالرحمن نقد الله، وآل سربل وآل نورالدين، منهم عبدالرحمن نور الدين، المهندس مصطفى عزالدين.

واحتضنت مدني في أزمان مختلفة نخبة ممن اشتهروا في عالم السياسة، كما يقول خضر هارون، فمنهم من أقام فيها ومنهم من درس في مدارسها، وهم مثالًا لا حصرًا: اللواء محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر، واللواء علي عامر قائد الجيوش العربية، وإسماعيل الأزهري، وجعفر نميري، وحسن الترابي، وأحمد عبدالحليم، وخلف الله الرشيد، وأحمد عبدالرحمن محمد، ومحمد يوسف محمد، وبابكر كرار.

ويرى السفير خضر هارون أن عودة مدني اليوم إلى حضن الوطن، تعيد كل ذلك الألق والجمال. وتشحذ أبناء السودان بالآمال في نهاية هذا العدوان الغادر، من بلد لم تضن على الجميع بخبرات أبنائها وبناتها، وكانت دائمة في الصدارة للدفاع عنهم، ولأن الطبع يغلب التطبع، ستظل أبدًا مرغامة وقلعة للصمود، ودوحة ظليلة لأصحاب الحاجات من غير من ولا أذى على قاعدة (لست بالخبء ولا الخبء يخدعني). ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين!

عزيمة الانتصار بديلاً لهزيمة الانكسار:

يقول محمد الواثق أبوزيد، أمين العلاقات الخارجية بحركة المستقبل، إن استعادة مدني تقرأ في سياق عملية سقوطها، وما أحدثته من ردة نفسية في عموم الناس، وخصوصًا القاطنين بها. لهذا أتت الفرحة تحمل في طياتها معاني الاعتذار من الجيش والاعتزاز من أنصاره، وعودة الثقة والروح، كما تُقرأ في ثنايا ما اجتاح الشعب من انفعال عمومي مرتجل وعفوي، عمق الاحتشاد الوطني الكبير للمعركة الراهنة في نفوس الناس، وهو تحول مفصلي بسبب أن مدني مثلت الصدمة الأولى لغازية المليشيا وعدوانها المباشر، بخلاف الخرطوم التي أتى انتشار الدعم السريع فيها من تلقاء الاختراق والتحول من الحماية إلى الاستحواذ. ويعتقد الواثق أن ما جرى في مدني أحدث جرحًا غائرًا في النفسية الجمعية، وأفقد ثقة الناس في جيشها، وبعد مضي عام ونيف، فإن استردادها سيمثل عودة الروح والولاء والثقة في الدولة وجيشها، وغسل عارها واستبدال هزيمة الانكسار بعزيمة الانتصار.

ويشير أبو زيد إلى مستوى الانهيار الذي أصاب الدعم السريع وأفقده توازنه منذ العبور، واسترداد النقاط الحاكمة في جبل موية والسوكي والدندر وسنجة ومصنع سكر سنار، ولكنه بدا بصورة أكثر جلاء في معركة مدني التي قاتلت فيها المليشيا في جيوب معزولة، ولم تنسحب كما تروج آلتهم الدعائية التي خبا بريقها تبعًا لما أصابها من اضمحلال عام. فقد تتبعهم الجيش وطاردهم حتى الحصاحيصا ورفاعة. ويستطرد: "كما أدركنا مؤشرات الانهيار في معارك الوسط، يبدو أننا سنقف على آثارها في محاور الخرطوم شمال، وربما نسمع خبر استرداد المصفاة قريبًا، والسبب المباشر يعود إلى استعداد الجيش وجاهزيته وإحكامه وصرامته في تنفيذ الخطط العسكرية في ظل دعم الشعب وتأييده".

ويرى الواثق أن الآثار الاقتصادية من أهم الأجندة في استرداد مدني، مثلما كانت سببًا في العدوان عليها لكونها على تماس مباشر مع الولايات المنتجة مثل سنار والقضارف والنيل الأبيض والخرطوم، والتي تعبر عن الوسط الحقيقي ومناطق المطامير والاكتفاء الذاتي للشعب السوداني، فضلاً عن موقعها في قلب الحركة اللوجستية، كونها تمثل نقطة مركزية رابطة في النيل الأبيض وشمال كردفان والدمازين وما جاورها، مما يسهل حركة انسياب السلع والناس. الأهم أن عودة مدني -بحسب الواثق- تعني عودة النازحين واللاجئين لكونها تحتضن ألف قرية بمجمل سكان يتجاوز 3,5 مليون نسمة، أكثر من نصفهم في مناطق النزوح وإعادة الحياة والإنتاج لمنطقة مهمة في السودان.

يشير الواثق إلى أن رمزية استعادة مدني تعني بصورة من الصور، انتهاء المعركة لصالح السودانيين، وبداية نهاية المليشيا. وسيكون هناك امتداد وزحف نحو المناطق الأخرى، وكما أن المعركة أحدثت شروخًا اجتماعية إلا أنها أحدثت رباطًا بين المستنفرين في الولايات الشمالية والغربية، وبين المرابطين في الدبة والمقاتلين في الفاشر، توحدوا على رد صائلة العدو المشترك ودفع غائلته وعدوانه.

نسف خطوط الإمداد ونفي رهانات التمدد:

ويرى الدكتور الفاتح الحسن، المختص في قضايا النزاع المسلح والجيوش غير النظامية، أن استعادة مدينة مدني تمثل خطوة استراتيجية وسياسية وعسكرية كبرى لموقعها الحيوي، وتموضعها في قلب السودان ومسارات طرقه القومية، فضلاً عن كونها تقع في المرتبة الثانية على مستوى المدن والحواضر السودانية، وتضم عددًا من المؤسسات المهمة مثل إدارة مشروع الجزيرة، وهيئة البحوث الزراعية، وجامعة الجزيرة، والمستشفيات المرجعية، ومؤسسة جياد الصناعية، كما تحتضن كتلة سكانية ضخمة ومتنوعة، وتتاخم أربع ولايات مهمة هي الخرطوم والنيل الأبيض وسنار والقضارف.

ويعتقد الحسن أن تحرير مدني على المستوى العسكري ينطوي على دلالات مهمة وهي ضرب مجاميع الدعم السريع في ولايتي الجزيرة وسنار، وتبديد ارتكازاتهم وتحصيناتهم واستعادة رقعة جغرافية شاسعة ومنبسطة، منذ استرداد جبل موية والسوكي والدندر وسنجة ومصنع سكر سنار. معتبرًا أن عودة مدني تحقق أهدافًا مهمة ليس أولها إيقاف التهديد على الولايات الأخرى التي لم تبلغها غاشيات العدوان، ولا آخرها نسف خطوط الإمداد بالعتاد والمرتزقة، عبر جنوب السودان وإثيوبيا، وقطع الطريق على رهانات التمدد التي اتبعها الدعم السريع منذ فشله في الانقلاب والتحول إلى خيار الحرب.

ويرجح دكتور الفاتح إلى أن استعادة الجزيرة هي خطوة في سياق استعادة محليات الخرطوم وشرق النيل وجبل أولياء، وتضييق الخناق على الدعم السريع في وسط السودان، وتتبعها إلى دارفور التي تدير فيه القوات المسلحة رفقة القوات المشتركة، مناورات ناجحة من شأنها أن تقضي على مشروعها تمامًا، وما هي إلا فترة محددة حتى تغدو المليشيا في السودان أثرًا بعد عين.

نجاعة تعديل الخطط وتبديل الاستراتيجيات:

في سياق ذي صلة، يرى عبد الحليم عباس، الكاتب والمحلل السياسي والعسكري، أن استعادة ود مدني تمنح مؤشرات ومؤثرات دالة على نجاعة خطط الجيش العسكرية المتبعة مؤخرًا، بخلاف الطرائق السابقة بحسبان أن الجيش بات يعمل على كسب الحرب كلها وليس بضعة معارك، وبالتالي فإن أي خسارة ستلحق بالدعم السريع سيكون لها تأثير مضاعف، بحيث لن تكون الخسارة في معركة واحدة معزولة عن سياق الحرب، بل ستكون الهزيمة متصلة في كل رقعة بصورة وثيقة، وبالتالي، يقول حليم عباس، يكون الانهيار في نقطة، انهيارًا في عدة نقاط.

ويقارن عبد الحليم عباس بين ما جرى مؤخرًا منذ استرداد جبل موية، وما حدث تحديدًا في استعادة مدني، وبين ما كان يحدث في تحركات الجيش الهجومية الفاشلة في بداية الحرب، مثل محاولة التقدم إلى جنوب الخرطوم، ومتحركات بحري، ومتحركات غرب أمدرمان من الغرب، وحتى محاولات التقدم من الخياري الذي حدث نهاية رمضان الماضي، وكلها ضربت في مهدها، وتم الالتفاف عليها وتبديدها. ويعتقد حليم عباس أن محاولات الجيش الأولية بدت غير جادة، وربما انطلقت من تقدير خاطئ لقوة المليشيا، التي لا يمكن مواجهتها من محور واحد. ثمة فارق كبير بحسب حليم بين مهاجمة الدعم السريع من خمسة محاور كما جرى في استعادة مدني، وبين المحاولات السابقة التي تمثل في أدنى تقديراتها فشلاً واضحًا في التخطيط. هنا يتساءل عباس حول: هل احتاج خريجو الكلية الحربية السودانية التعلم بالتجربة والخطأ؟ يقول حليم: إذا أخطأ الجيش تقدير قوة المليشيا في بداية الحرب، فإن المليشيا تخطئ حاليًا بشكل مضاعف. بيد أن خطأها الأكبر كما يتضح هو عدم وضعها في الحسبان معنى أن يندرج الشعب السوداني في القتال إلى جانب الجيش وترجيح كفته.

يعتقد المحلل السياسي والعسكري أنه كان من الأفضل للدعم السريع أن يقبل بخسارة المعركة في الخرطوم في الأيام الأولى

ويعتقد المحلل السياسي والعسكري أنه كان من الأفضل للدعم السريع أن يقبل بخسارة المعركة في الخرطوم في الأيام الأولى، رغم جودة وضعه العسكري، والقبول بشروط الجيش لإيقاف إطلاق النار، من أن تستمر الحرب وتتحول إلى مواجهة مع الشعب كله. ويكمن الخطأ وفق حليم في قرار توسيع دائرة الحرب خارج الخرطوم، والاستعانة بفزع قبلي غير مدرب وبمرتزقة أجانب، ومع أنه أكسب الدعم السريع بعض الانتصارات لكنه جعله يخسر الحرب في نهاية المطاف. وبسبب من الانتهاكات الواسعة التي مارسها الدعم السريع بغرض إخضاع الشعب وإرهابه تحولت الحرب إلى فوضى، وانتقلت من كونها معركة ضد الجيش بسرديات زائفة إلى استهداف مباشر للمواطن. لقد كانت تلك اللحظة هي نهاية الدعم السريع رغم أنه ظاهريًا كان يتقدم ويحقق بعض المنجزات على الأرض.

ويشير عبد الحليم عباس إلى أن الانتصارات الزائفة التي كانت تحققها الدعم السريع ضاعفت الرهان عليه من الحلفاء الداخليين والداعمين الخارجيين، بغرض ترويع وتركيع الشعب وسوقه للإذلال والاستسلام، فأتت النتيجة عكسية، إذ هب الشعب وساند الجيش ورجح ميزان المعركة بشكل حاسم.