اجتثاث ثقافة الموت
22 ديسمبر 2019
ربما لا يمكننا قراءة صدور قانون تفكيك النظام وإزالة التمكين لعام 2019 ومسيرة الزحف الأخضر إلا في ضوء الخلفية التاريخية الراسخة للعنف الممنهج الذي مارسته الإسلاموية تجاه المجتمعات السودانية أولًا، تحت مسمى شعارها الآيديولوجي "إعادة صياغة الإنسان السوداني دينيًا وحضاريًا"، وثانيًا تجاه الأحزاب السياسية والكيانات النقابية وخصومها المعارضين والمقاومين لآلتها القمعية والدموية. فطوال عهود نظام الإنقاذ الشمولي كان التجييش العاطفي والعسكرة الدينية للمجتمع هي التجلي الأبرز لأبشع أشكال العنف الممارس بواسطة جهاز الدولة الذي تجاوز مع الإسلامويين حدود الاحتكار الشرعي وغير الشرعي للعنف، بعد أن أصبحت الدولة هي العُنف مجُسَّدًا ومشاعًا بلا جهاز أو سيادة، وهو ما تبرهن عليه حروب الجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ودارفور، حيث المحارق والإبادات والاقتلاع والتشريد تحت رايات الإسلام السياسي الخفَّاقة.
الرابط بين قانون التفكيك والإزالة والمسيرة هو أن الفئات التي شاركت في هذه المسيرة هي نفس الفئات التي استفادت من التمكين ماديًا ومعنويًا طوال عهود النظام البائد
والرابط بين قانون التفكيك والإزالة والمسيرة هو أن الفئات التي شاركت في هذه المسيرة هي نفس الفئات التي استفادت من التمكين ماديًا ومعنويًا طوال عهود النظام البائد. إذ شهدت مسيرة الزحف الأخضر انخراط فئات مختلفة من الإسلامويين الموالين والمنتفعين وغيرهم من غير الإسلامويين المتعاطفين بحكم الانتماء الإسلامي التقليدي. فخلال عهد النظام الإسلاموي البائد ساد مصطلح ’’الأرزقية‘‘ الذي يشير إلى تلك الفئات التي ظلَّت تتكسب ماديًا ومعنويًا من تواطؤها الأيديولوجي مع النظام الحاكم باسم الدين. وهي نفس الفئات التي شكلَّت قوام حشد الزحف الأخضر لأنصار النظام السابق الذين خرجوا يوم 14 كانون الأول/ديسمبر عابرين الشوارع إلى القصر الجمهوري هاتفين ومنددين بحكومة الفترة الانتقالية رافعين شعارات أبرزها "هي لله هي لله"، وهو ذات الشعار الذي دشن عصر نظام الإنقاذ الدموي والفاسد والمستبد. وتبدو المفارقة صارخة حد الغباء التاريخي في استدعاء هذه الشعارات الجوفاء بعد أن تهاوى العرش فوق رؤوسهم مع صدور أول حكم قضائي على قائد الحزب البائد الرئيس المخلوع عمر البشير. إن هذه الشعارات أقلَّ ما توصف به أنها كانت طوال ثلاثة عقود تُشرعن باسم الدين للاستبداد والعنف ناهيك عن استباحة المال العام وهدر الموارد بعد أن تم تحويل الوزارات ودواوين الخدمة العامة إلى أوكار للموالين للنظام ومنسوبيه.
اقرأ/ي أيضًا: هوس الامتلاك.. قراءة في سيكولوجيا "الزحف الأخضر"
ولم يكن غريبًا على السودانيين أن يروا مجددًا العصاب الإسلاموي مجسدًا من خلال هيجان الأرزقية وصراخهم وهتافاتهم الملوحة بالشعارات المنددة بحكومة الفترة الانتقالية. إذ يكفي شعار "لا لدنيا قد عملنا، نحن للدين فداء، فليعد للدين مجده، أو تُرق منا الدماء، أو تُرق منهم دماء، أو تُرق كل الدماء" التي دشنت به آلة السحل الجهادي أزمنة العنف الإسلاموي الذي خُصصِّت له برامج دعائية وتجييشية أبرزها البرنامج التلفزيوني "في ساحة الفداء" الذي لم يكتف بتعميق الانقسامات وترسيخ الإقصاء والاستعلاء على أساس ديني وإثني بين شمال السودان وجنوبه، ولكن استبدل ثقافة الحياة بثقافة الموت في ساحات الحروب باسم الاستشهاد في سبيل الله والصعود إلى الجنان للزواج بالحور العين، وهي الخرافة التي أبطل قدسيتها الدينية ومفعولها السحري عراب النظام السابق نفسه، حسن الترابي. ولعل أبشع ما رسخت له آلة العنف الجهادية حالة نبذ الحياة ونشدان الموت والخلاص في ساحة الحروب. لقد أخذ السودانيون رويدًا رويدًا يخافون الحياة تحت هدير آلة العنف الإسلاموي التي عزز مفعولها التشريد الممنهج لغير الموالين للنظام وتمكين منسوبيه من الأرزقية الانتهازيين في المرافق العامة ودواوين الخدمة المدنية، ناهيك عن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي دفعت فقراء الريف والمدن وضحايا النزاعات والحروب والشباب العاطلين عن العمل إلى الخروج للشوارع طوال مراحل الثورة التي توِّجت بإسقاط النظام في 11 نيسان/أبريل.
لذلك، ربما ينجح قانون التفكيك والإزالة في اجتثاث كل جذور التمكين السياسية والاقتصادية، لكن ستبقى ثقافة الخوف من الحياة مُعشعِّشة في دواخل السودانيين تحول بينهم وبين الإقبال على الحياة، على الرغم من أن تجربة ثورة كانون الأول/ديسمبر، واعتصام القيادة أحيتا مجددًا رغبة السودانيين في الحياة والعيش بحرية وكرامة. وذلك لأن ثقافة الموت الجهادي خلقت أيضًا حواضن اجتماعية مواتية لانتشار الجماعات السلفية والظلامية طوال العقود الماضية، بعد أن أصبح "النقاب" أداةً لمقاومة الحرمان من الحياة أكثر منه شكل رمزي وتعبيري لنمط من أنماط التديُّن الاجتماعي. لقد تشكَّل قوام مسيرة الزحف الأخضر من فئات الأرزقية "كارهي الحياة" باسم النخوة الدينية والحفاظ عليه من حكومة الفترة الانتقالية الشيوعية والعلمانية.
قد يكون اجتثاث جذور التمكين من مؤسسات الدولة أقل صعوبة من اجتثاث ثقافة الموت الإسلاموية التي حوَّلت كثير من غير الإسلامويين المتعاطفين دينيًا إلى "كارهين للحياة"
قد يكون اجتثاث جذور التمكين من مؤسسات الدولة ودواوين الخدمة العامة والمرافق الحكومية أقل صعوبة من اجتثاث ثقافة الموت الإسلاموية التي حوَّلت كثير من غير الإسلامويين المتعاطفين دينيًا إلى "كارهين للحياة" ولقيم الوجود الإنساني المشترك بين السودانيين الذي يعلو فوق الانقسامات والتكتلات والإقصاءات القائمة على العرق والدين والثقافة والجغرافيا. وبإمكاننا استلهام تجربة اعتصام القيادة التي أحيَت قيمًا وغرست أخرى جديدة ستغذي مع مرور الزمن ثقافة الحياة المضادة لثقافة الموت وفقدان الرغبة في الحياة.
لم نكن نرى في وجوه المحتشدين في مسيرة الزحف الأخضر سوى عصبة من بقايا الإسلامويين الانتهازيين وغير الإسلامويين المنتفعين، الذين ظلوا على مدى ثلاثة عقود من عمر النظام البائد يرضعون من ثدي موارد الدولة الذي استأثر به حزب المؤتمر الوطني ومنسوبيه. وهي عصبة يغذي انتماءها الآيديولوجي ومواقفها السياسية كره الحياة ورفضها باسم الدين المُسيَّس والمُبجِّل للموت.
اقرأ/ي أيضًا
الكلمات المفتاحية

نزوح الفاشر إلى الدبة.. حين تضغط الجغرافيا وتنكسر السياسة
الآثار الكارثية لما وقع في الفاشر لن تمحي قريبًا. الآلاف قتلوا وشردوا وانتهكت أعراضهم في واحدة من أسوأ مشاهد الحرب الدائرة في السودان، بل هي مأساة مكتملة،

"أبو لولو" كمرآة لعنف الدعم السريع
تجاوز ظهور المجرم المدعو "أبو لولو" في مقاطع الفيديو الأخيرة من الفاشر كونه مجرد واقعة دموية جديدة في سجل الحرب السودانية، الى كونه حدثًا إعلاميًا مُحمَّلًا بالرموز، استُخدم - بوعي أو دون وعي - لصرف الأنظار عن المنهجية الأعمق للعنف داخل الدعم السريع.

مجزرة الفاشر.. حقيقة الحرب وجوهرها
سيتذكر السودانيون في المستقبل أن قوةً شبه نظامية تمردت على الدولة، وجمعت أشتاتًا من القتلة واللصوص من السجون والمليشيات، استأجرتها إحدى الدول لتحطيم السودان ونهبه وتجيير موارده لها. سيتذكرون تلك الليلة التي سقطت فيها أكثر المدن مقاومةً للغزو، وكيف أقاموا فيها مجزرةً لا أول لدمويتها ولا آخر لوحشيتها. وستكون هذه الذكرى هي الحصانة التي ستحمي السودانيين والدولة السودانية من تكرار أخطاء الماضي، بكل…

هل ما زال في السودان متسع للعقلاء؟
قبل أيام، اهتزت ولاية شمال كردفان على وقع حادثة مأساوية باغتيال الناظر سليمان جابر جمعة، زعيم قبيلة المجانين، إلى جانب واحد وعشرين من أعيان وشباب منطقته في المزروب بسقوط طائرة مسيرة. وتبادل على إثرها الاتهامات بين مجلس السيادة والدعم السريع وقوىً سياسية مختلفة. مع العلم أن الكارثة وقعت بعد أسابيع من توترات محلية واشتباكات محدودة بالمنطقة، ومثلت ضربةً موجعةً للإدارة الأهلية التي فقدت أحد أبرز…

نزوح الفاشر إلى الدبة.. حين تضغط الجغرافيا وتنكسر السياسة
الآثار الكارثية لما وقع في الفاشر لن تمحي قريبًا. الآلاف قتلوا وشردوا وانتهكت أعراضهم في واحدة من أسوأ مشاهد الحرب الدائرة في السودان، بل هي مأساة مكتملة،

النقارة السودانية.. طبول تروي حكايات الفرح والحزن
تُعد النقارة السودانية نبضًا حيًا للثقافة الموسيقية في البلاد، فهي تحمل في دقاتها إرثًا فنيًا زاخرًا بالإبداع، وبين طياتها رسائل مختلفة، تعبر أحيانًا عن الفرح وأحيانًا عن الفزع والحزن، عبر إيقاعات متنوعة ومتفردة. تُلهب هذه النقارة الروح وتحتفي بالهوية والذاكرة الشعبية، وتستخدم بشكل خاص لدى قبائل كردفان.

الطيران الحربي للجيش السوداني يشن غارات على مطار نيالا
شنَّ الجيش السوداني، السبت 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، غاراتٍ جوية على مواقع قوات الدعم السريع داخل مطار نيالا في ولاية جنوب دارفور.

صمد لـ 30 شهرًا.. طبيب سوداني يُضيء الظلام بالحصول على جائزة دولية
بعد 30 شهرًا، توّجت منظمة أورورا الدولية الطبيب السوداني جمال الطيب بطلًا للقطاع الطبي والصحي والإنساني، من بين 900 شخصية حول العالم نافسوا على الجائزة التي أُعلن عنها الخميس 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2025.
