02-ديسمبر-2019

البشير بمعية الراحل حسن الترابي وغازي صلاح الدين في السنوات الأولى لانقلابهم (Getty)

الإسلام وقميص يوسف

"أنا كماركسي لينيني منضبط.." هكذا اعتدنا - أنا وأخي- أن نبدأ طرح آرائنا في شؤون الحياة، وكلانا لا علاقة له بماركس ولا لينين غير أننا كبرنا على محبة حمِّيد، وحين توسطنا الطريق اتخذنا "الحكمة ضالة المؤمن" سبيلًا، لكننا نقول هذه العبارة من باب التهكم، حيث إن أوّل من استعملها أقحمها في غير موضعها، في أمر سطحي جدًا، فأصبحت لازمة قول عندنا. هل يعجبك هذا اللون؟ أنا كماركسي لينيني منضبط لا أفقه شيئًا في الألوان!

هذا بالضبط ما يفعله "الكيزان" الآن، نقول: الفساد؛ فيقولون: نحن إسلاميون منضبطون مستهدفون، نقول: الحرية؛ فيقولون: الإسلام ديننا الحنيف مستهدف، نقول: السلام؛ فيقولون: نحن المجاهدون

هذا بالضبط ما يفعله "الكيزان" الآن. نقول: الفساد؛ فيقولون: نحن إسلاميون منضبطون مستهدفون. نقول الحرية؛ فيقولون: الإسلام ديننا الحنيف مستهدف. نقول: السلام؛ فيقولون: نحن المجاهدون حملة لواء الإسلام في الأرض مستهدفون. وواقع الحال أن المفسدين من المنتمين لدين الإسلام منزوعة عنهم صفة الإيمان، فقد جاء في الحديث الصحيح: "ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن"، وقد جاء الإسلام بأحكام شديدة غليظة في مسألة المال العام، بل والخاص -مثل الحجر على السفيه- أما الحرية-فانظر الورقة الأولى من هذه الأوراق، ثم تعال لنحدثهم عن الحرية في الإسلام،  الدين الذي يكفل لك من الحرية كل شيء إلا إلحاق الأذى بنفسك أو غيرك، ويأمرك أن "تترك الخلق للخالق"، والسلام في الإسلام أولوية؛ "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا" الإسراء، الآية (33). وقد جاء اسم الإسلام من الأصل "س ل م"، وكأنه جاء كإعلان سلام بعد قرون من الحرب عصفت بالعرب والفرس والروم والترك، لكن ما يزال البشر يتجاوزون ظن الملائكة وعلمهم فيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، لكن ما لا يمكن قبوله أن تُنسَب هذه الأفعال المشينة إلى الإسلام، دين السلام.

اقرأ/ي أيضًا: الثورة السودانية.. حراكُ مستلهٌم من إرثٍ تليد

هل التاريخ الإسلامي ملطخ بالدم؟ نعم وتاريخ كل الأمم كذلك، على اختلاف أديانها، لأن هذه أخلاق أهل الأرض، لا ما أوحى به الله إلى عباده، في مختلف الأديان، وما جاء في شأن الحرب الأصل فيه أنه جاء لدفع ضرر أو إصلاح فساد، فخرائط الدم التي تغطي الكرة الأرضية من رسم أهل الأرض، أفرادًا وجماعات.

أكتب هذه الكلمات في أول جمعة بعد صدور قانون حل المؤتمر الوطني، والأسافير بين زغاريد الفرحين وعويل المصابين، فأكاد لا أجد نفسي لا بين هذا ولا عند ذاك، لكن تستفزني اللغة، فأقول "تبًا لهم"، كيف سنغسل ثوب اللغة من أدناسهم، كيف سنطِّهر الدين من آثامهم؟ لنبدأ بفك ياء النسب التي علّقوا بها أفعالهم في الإسلام كأنه مشجب على الباب. صباح 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 كتب صديق على صفحة كتاب الوجه "فيسبوك": زول سألني عن الفرق بين "المسلمين" و"الإسلاميين"؛ زي ما شرحت قبل كدا، الفرق بسيط، وكبير: المسلمين بعبدوا الله. الإسلاميين بعبدوا الإسلام.

اقرأ/ي أيضًا: نظام التعليم بالسودان وترسيخ التفاوتات الاجتماعية

لو كانوا يعبدون الإسلام – يا أخا الإسلام- لما مسّنا سوء، لكن ما فعله أرباب الظلم والفساد في السودان بتسميّة أنفسهم إسلاميين كارثي إذ لم تربطهم بالإسلام علاقة عبادة وتعبّد وتقديس، بل ظلت علاقتهم به علاقة استنزاف وإساءة وابتذال، فهم فعلوا كل سوء بشري في الدنيا ونسبوا أنفسهم إلى الإسلام، ثم بالتعدي، أصبحت هذه الأفعال تُنسَب إلى الإسلام، وهو منها بريء براءة ابن يعقوب من كيد زليخة لكنهم جاءوا عليه بدم كذب، وإن كانت براءة سيدنا يوسف أظهرها قميصه لحظة الحادثة إلا أن القميص لم ينجه من الحبس فلبث في السجن بضع سنين، وكذا حال الإسلام والوطن والشعب مع هؤلاء. سنحتاج سنوات لنتعرف على ديننا من جديد ولنحب إسلامنا المنزَّه من العيوب، دين الكمال والجمال ومن جديد. لنقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بفرح، لنتعامل مع "جزاك الله خيرًا" على أنها دعاء جميل لمن فعل خيرًا، لا نفاقًا أفَّاكًا أشر، لنتقبّل الحجاب على أنّه قرار شخصي وحريّة دينيّة لا متطلب وظيفة. سنحتاج سنوات حتى نتعامل مع أصحاب الغرر دون ريبة وسوء ظن. ما فعلته هذه الجماعة وهي تتشارك ظلم السودانيين (30) سنةً، سنةً إثر سنة، دمًا وسرقة، إهانة وامتهانًا، لن يُغسَل دنس ربطه بالإسلام من أذهان السودانيين بسهولة، لكن الله وحده قادر على أن يلطف بعباده ويخرجهم من هذه المحنة دون فتنة في دينهم الذي ارتضى لهم، وأرضاهم به؛ والفتنة تعريض الذهب للنار لتنقيته من الشوائب، وشتان بين التبر والتراب.

سنعود بلطف لنحب الوطن، كلمة وأرضًا، سنعود برويّة إلى أنفسنا "شعبًا سودانيًّا" واحدًا، كالجسد الواحد يتداعى لعليل بالسهر والحمى، بالعمل الجادّ والعاطفة الصادقة

لسنوات ظللت أتجنب كلمتي الوطن والشعب فعند معرض الحديث عن السودان أكتب "اللهم إني أحب (البلاد) شِبرًا شِبرًا وأهلها الطيِّبين الكرام"، ومن الطرافة بمكان أني عندما بحثت عن "مؤتمر" سابقة وطن وشعب عندهم وجدت في لسان العرب: "والائْتِمارُ والاسْتِئْمارُ: المشاوَرَةُ، وكذلك التَّآمُرُ، على وزن التَّفاعُل. والمُؤْتَمِرُ المُسْتَبِدُّ برأْيه، وقيل: هو الذي يَسْبِقُ إِلى القول. قال امرؤ القيس في رواية بعضهم؛

أَحارُ بْنَ عَمْرٍو كأَنِّي خَمِرْ *** ويَعْدُو على المرْءِ ما يَأْتَمِرْ

ويقال: بل أَراد أَن المرء يَأْتَمِرُ لغيره بسوء فيرجع وبالُ ذلك علي. ووجدت المؤتَمر صنو المؤامَرة وهما من نسل الإمارة، لكن "النفس لأمَّارة بالسوء"، "والمكر السيء يحيط بأهله".

"عزيز أنت يا وطني برغم قساوة المحن

برغم صعوبة المشوار، وكل ضراوة التيار

سنعمل نحن يا وطني.. لنعبر حاجز الزمن

حياتك كلها قيم تتوج همة شماء

فكم في الدرب من ضحوا

وكم في الخلد من شهداء"

نعم يا وطني، نحن سنعود بلطف لنحب الوطن، كلمة وأرضًا، سنعود برويّة إلى أنفسنا "شعبًا سودانيًّا" واحدًا، كالجسد الواحد يتداعى لعليل بالسهر والحمى، بالعمل الجادّ والعاطفة الصادقة، حُبًّا على حب، وَجِدًا على عمل.

"جدودنا زمان وصُونا على الوطن، على التراب الغالي الما ليه ثمن"،

وسيظل الإسلام حرًّا وبريئًا من كل دنس، حاملًا البشارة والمنارة، نورًا على نور، وخيرًا على خير.

 

اقرأ/ي أيضًا

لنستعِد فلسطين كما استعادت ثورتنا "كولمبيا"

النخب الإسلاموية في السودان.. الظالمون المتظلمون