16-يوليو-2020

العاصمة جوبا (Juba Taxi)

غالبًا ما تحمل الأسماء ذات الدلالات التاريخية ذاكرة المكان، خاصةً أسماء المناطق والأحياء السكنية و القرى، إذ أن تلك المسميات لم تأت بصورة اعتباطية، وإنما جاءت كي توثق لحدث أو مجموعة أحداث عميقة الأثر سواء كان إيجابيا وسعيدًا، أو انطوى على تجربة مريرة ومؤلمة، فهي جميعًا تستحق الاحتفاظ بها كتراث متواتر للأجيال اللاحقة، فإحياء الذكرى واحدة من شروط تعافي المجتمعات التي سبق وأن عاشت تجارب مأساوية من الحرب والموت و الاقتتال و المجازر، وهذا كفيل أيضًا بأن يساعدها في عملية التعافي متى ما انزلقت في أتون الصراعات الداخلية التي تصاحبها غالبًا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

استطاع الناس أن يصبغوا على الأماكن التي شهدت أحداثًا سياسية واجتماعية كبيرة ومؤثرة، أسماءً تحتفظ بأطنان من الحكايات والسير الشعبية والأساطير

تحمل مدينة جوبا عاصمة الإقليم الجنوبي سابقًا، ودولة جنوب السودان بعد الاستقلال في تموز/يوليو 2011، وغيرها من المدن التاريخية الكبيرة التي نشأت إبان حقب الاستعمار الإنجليزي، واستمرت في الوجود كمراكز حضرية، تحمل ذات العبء التاريخي المملوك لسكانها القدامى، حيث استطاع الناس أن يصبغوا على الأماكن التي شهدت أحداثًا سياسية واجتماعية كبيرة ومؤثرة، أسماءً تحتفظ بأطنان من الحكايات والسير الشعبية والأساطير التي صنعتها الذاكرة الجمعية، في وقتٍ كانت فيه التسمية هي الحافظة الوحيدة لحكايات وقصص كانت تنتظر أزمنة أخرى، جديدة ومختلفة وأكثر أمانًا حتى يتم تجميعها وابتعاثها من جديد، للمساعدة في ترميم الجزء الأهم من تاريخ العبودية والحرب والمنافي التي تتغنى بحنين العودة للديار الافتراضية.

اقرأ/ي أيضًا: مباحثات سد النهضة تختتم أعمالها بإحراز تقدم طفيف في القضايا الفنية

إن إعادة تقييم أسماء الأماكن والاسواق والأحياء السكنية بمدينة جوبا من أمثال: (حي أطلع برة، سوق رجال مافي، سوق مليشيا، حي 107، سوق "كونجو كونجو"، منطقة طونق فينج، جوبا ناباري، كلي بالك، كوبري كوكورا)، من قبل الوافدين الجدد على المدينة، وأقصد بهم معظم الذين بدأت علاقتهم بالعاصمة جوبا مع تكوين حكومة جنوب السودان خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت توقيع اتفاقية السلام في العام 2005، أو الذين ربطتهم بها علاقات عمل ودراسة واستقرار تام بعد إعلان الاستقلال في 2011، لن يكون ذو جدوى لأنهم ينظرون إليها ويقارنون بين أسمائها وأسماء الأحياء في الدول و البلدان التي جاءوا منها، وفي هذا ظلم كبير لخصوصية الاسم و المكان، أو كما قال دكتور صابر جرار، إن أسماء الأماكن الجغرافية من مدن وقرى وأحياء، لم تطلق على مسمياتها عبثًا، بل إن لكل اسمٍ سببًا وحكاية، وغالبًا ماتشير تلك الأسماء لحدث اجتماعي أو حادث تاريخي، وتلك الأسباب مجتمعة تشكل هوية  المكان وتاريخه وانتسابه.

اقرأ/ي أيضًا: التضخم يسجل رقمًا قياسيًا.. والإحصاء يعزو الارتفاع إلى شح الوقود والحبوب

الواضح جدًا أن تلك الأسماء حملت الجوانب المتعلقة بذكريات الاستعمار، الحروب، التسويات والأزمات الداخلية التي تسبب فيها الجنوبيين أنفسهم، لأن الأسماء أصبحت طاغية على الحكايات و سياقات التسمية، وصار الناس ينظرون إليها كأشياء جامدة ومجردة وخالية من الفطنة والدلالات، ترقى إلى درجة كونها مجلبة للسخرية والاستهزاء، مثلما حدث مع نادي أطلع برة الرياضي لكرة القدم أثناء مشاركته في إحدى البطولات القارية بالعاصمة المصرية القاهرة، كان التهكم على اسم النادي والحى اعتباطيًا، لأن الحكاية خلف الاسم ظلت غائبة وغير موجودة، بسبب عدم الاهتمام الرسمي بالدراسات والتوثيق، وهو دور منوط بالباحثين والدارسين والجهات الحكومية الرسمية أن تشجع الدراسات المتعلقة بالأسباب التي قادت الناس أن تتوافق على تلك التسمية، إذ أن ضياع جميع تلك السرديات يمثل ضياع لموروث شفهي مهم، لأنه وإن أصرت الجهات الرسمية العليا على تغيير وإسقاط تلك الأسماء؛ فإنها ستستمر محفوظة في الذاكرة الشعبية تقاوم مثلها مثل عد الغنم/عد الفرسان، سفاهة/سماحة، كوبر/عمر المختار، والكثير الكثير من الأمثلة الحية.

الدعوات والمطالبات التي يقف خلفها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي لتغيير أسماء تلك الأحياء لن تتوقف وستستمر متى ما أتيحت لها الفرصة

صحيح أن الدعوات والمطالبات التي يقف خلفها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي لتغيير أسماء تلك الأحياء لن تتوقف وستستمر متى ما أتيحت لها الفرصة، فهو صراع بين تيارات عديدة لكل منها دفوعاته في تغيير تلك الأسماء أو الاحتفاظ بها، لكن المطلوب منهم في هذا الظرف الدقيق أن يعودوا القهقرى قليلًا، وأن يتأملوا المشهد الحالي، ومن ثم مقارنته بالظروف التي قادت سكان جوبا في تلك العهود لإطلاق تلك الأسماء، ومن ثم الجلوس قليلًا للاستماع للقصص والحكايات التي تقف وراء جميع تلك الأسماء، وهل كانت مفصولة عنهم وعن معاناتهم، أم أنها جاءت في سياق التعبير الاحتجاجي الجماعي لجميع المغلوبين على أمرهم؟

اقرأ/ي أيضًا

أزمة القيادة والنخب.. ملاحظات في ذكرى الاستقلال

تسعة أعوام على الاستقلال.. الأسى يطغى على الفرح