يتردد عبد الرحمن على مركز لغسيل الكلى بمدينة عطبرة بولاية نهر النيل، شمال البلاد، وقبل ذلك يتعين عليه تدبير أجرة التاكسي من وإلى المرفق الصحي، والأدوية المطلوبة في مثل هذه الحالات. كما يتعين عليه الانتظار في القائمة لساعات طويلة أو الوصول باكرًا قبل شروق الشمس.
طبيب: لا يمكن الموازنة بين الصرف على العمليات العسكرية وعلى القطاع الصحي
كانت عائلة عبد الرحمن تتردد به على مركز لغسيل الكلى بمنطقة الخرطوم بحري، شمال العاصمة الخرطوم، قبل أن تندلع الحرب ويتحول المرفق الصحي إلى مجرد مبانٍ خالية من كل شيء تقريبًا، مع نهب الأدوية بما في ذلك مخازن الإمدادات الملحقة بالمركز، الذي كان يقدم خدماته لأكثر من ثلاثة آلاف مريض.
يقدر عدد مرضى غسيل الكلى بأكثر من (20) ألف شخص بولاية الخرطوم، أغلبهم غادروا العاصمة بحثًا عن مراكز في الولايات لاستئناف عمليات الاستصفاء الدموي، التي تحتاج إلى عناية فائقة ومتابعة دورية تستغرق مرتين أسبوعيًا على الأقل.
تقول ابنة عبد الرحمن، التي ترافقه في رحلاته للعلاج، في حديث لـ"الترا سودان": "إن فكرة التوجه إلى عملية غسيل الكلى مرتين خلال الأسبوعين مدمرة نفسيًا للمريض، خاصة وأن العناية هنا سيئة؛ بدءًا من مغادرة المنزل بواسطة سيارة أجرة بسعر باهظ، وشراء الأدوية وتأمينها حتى لا تنفد وتتدهور حالة المريض".
وعند سؤالها: "هل لديكم خيار آخر باللجوء إلى دولة مجاورة مثلًا؟" رفضت التعليق على هذا السؤال، قائلة إن الوضع المالي للعائلة لا يسمح بالسفر من مدينة إلى أخرى. وأضافت: "عندما نفرغ من غسيل الكلى لوالدي نشعر بالارتياح كثيرًا وكأننا أنجزنا شيئًا رائعًا، لأن القلق لا يفارقنا من توقف المركز أو حدوث طوارئ، خاصة وأن الحرب لم تترك لنا شيئًا لا يمكن تخيله".
وزارة الصحة
تقول وزارة الصحة الاتحادية إنها تعمل على سد النقص في المرافق الصحية بالولايات، التي فر إليها ملايين النازحين خلال الحرب، من خلال توفير الأجهزة الطبية والمعدات وتشغيل القطاع الصحي العام بصورة مستدامة. وفي هذا الصدد، طلبت الوزارة من دولة قطر التدخل لإعمار القطاع الصحي، والأخيرة أكدت استجابتها للمناشدة مع إرسال عشرات الأجهزة من المعدات الطبية والأدوية المنقذة للحياة.
يقول العاملون في القطاع الصحي والكيانات النقابية الطبية إن المستشفيات والمرافق الصحية في السودان لم تكن بحاجة إلى الحرب؛ لأنها وجهت إليها الضربة القاضية ودمرتها بالكامل.
طبيب: لا يمكن إحياء القطاع الصحي في السودان قبل توقف الحرب وتوفير تمويل يصل إلى مليار دولار من الخزانة الحكومية
"لا يمكن إحياء القطاع الصحي في السودان قبل توقف الحرب وتوفير تمويل يصل إلى مليار دولار من الخزانة الحكومية، ومليار من المؤسسات الدولية، وهذا مستحيل تمامًا في الوقت الراهن"، هكذا يتحدث محمد ماهر، الطبيب الذي اعتاد العمل في المناطق الساخنة والحالات الطارئة، معبرًا عن حالة من اليأس. ويضيف: "كُلفة الحروب أسوأ من الأسباب التي تجعلك تخوضها، حتى لو كنت مضطرًا لذلك. الدول عندما تواجه أزمات كالحروب تبحث عن 'مخارج النجاة' بقدر الإمكان".
ببنادق الكلاشنكوف وفتيان في مقتبل العمر يلوحون بعلامات النصر أمام مستشفى النساء والتوليد في أم درمان طيلة العام الماضي، قبل أن يستعيده الجيش في آذار/مارس 2024. هذه الصورة تمنحك عنوانًا بارزًا عن الوضع الصحي خلال الحرب، وانحداره إلى درك سحيق.
يقول ماهر إن تضرر القطاع الصحي تسبب في وفاة الآلاف بسبب نقص الرعاية الصحية والأدوية، خاصة كبار السن والأطفال والنساء الحوامل. ويشير إلى أن الخطط الإسعافية التي نفذتها وزارة الصحة الاتحادية، رغم عملها في ظروف قاسية، لن تحقق المطلوب، لأن الوضع المثالي يتطلب كفاءة عالية للقطاع في بلد يستعر فيه القتال منذ (20) شهرًا، حيث يلتهم الصراع المسلح الموارد المالية، ولا يتيح للقطاع الصحي أولوية الحصول على التمويل.
دولتان في السودان
المعارك العسكرية التي تستعر في أنحاء عديدة من البلاد، سوى شرق وشمال السودان، تبدو وكأنها في بلد آخر. دولة تعتمد على المساعدات الإنسانية من المنظمات الدولية منذ سنوات طويلة، ولم تغادر محطة النزاعات المسلحة في إقليم دارفور، وجبال النوبة، وكردفان، والنيل الأزرق.
تذخر الأراضي باحتياطات الذهب، وتصدر عشرات الأطنان سنويًا إلى الأسواق العالمية. ومع اشتداد حمى المعدن الأصفر، وسعت مجموعة حميدتي، القائد الذي يقود قوات شبه عسكرية، من الإمبراطورية الاقتصادية، وازداد نفوذه في القصر الرئاسي عقب الإطاحة بالبشير، رغم تقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين.
باحث: الصرف على القطاع الصحي والتعليم في السودان لم يكن من أولويات الحكومات
يوضح عبد الله بشار، وهو باحث في مجال التنمية الاجتماعية، أن الصرف على القطاع الصحي والتعليم في السودان لم يكن من أولويات الحكومات. ويقول: "لذلك، عندما يكون الحديث عن إنشاء مستشفى يكون السؤال التالي: 'لماذا لا تطلبوا التمويل من المؤسسات الدولية أو الدول المانحة؟'".
ويستدرك قائلًا: "لا توجد إجابة لدى صانعي القرار في الدولة عن لماذا لا نشيد القطاع الصحي". ويعتقد بشار أن تدهور القطاع الصحي خلال الحرب نتيجة حتمية لتفوق ميزان الصرف على العمليات الحربية بنسبة لا تُقارن، ويكاد التمويل الحكومي للقطاع الصحي يكون 'معادلة صفرية'.
وأضاف: "لجأ نحو 8 ملايين شخص إلى الولايات البعيدة نسبيًا عن الحرب، والطبيعي أن تقابل هذا العدد بالخدمات الصحية الضرورية، بتشييد مستشفيات ميدانية مؤقتة في مراكز اكتظاظ النازحين، لا عيادات صغيرة لا تلبي الاحتياجات المرتفعة لعشرات الآلاف من المرضى".